في عالم يسوده الفقر والعنف كحقيقة يومية لملايين البشر، ما زالت هناك أماكن معينة تكاد فيها جسامة المعاناة البشرية تستعصي على الوصف. ودارفور، في غرب السودان، أحد هذه الأماكن. فهناك مات النساء والأطفال بعشرات الآلاف، وتفيد تقارير وكالات الأممالمتحدة الموجودة على أرض الواقع بأن عشرات القرى تعرضت للقصف والحرق، مما أجبر الأسرى على الفرار، خوفاً من الميليشيات، دون طعام أو مأوى. كما تسهم جماعات المتمردين في حالة انعدام الأمن. وقد تعرضت الأمهات والأخوات والبنات للانتهاك بصورة وحشية، وتيتم الآلاف من الأطفال. ويتفشى المرض والجوع وسط أكثر من 1.4 مليون من السودانيين المشردين من بيوتهم وكذلك بين المئتي ألف من السودانيين اللاجئين في تشاد المجاورة. وبعد عقدين من الأعمال الحربية وموت أكثر من مليوني سوداني، آن الأوان لأن يغدو السودان، في نهاية المطاف، مهيأ للسلام بعد الانفراج الذي حدث في محادثات السلام بين الشمال والجنوب. ومع ذلك، لا يمكن أيضا أن يكون هناك سلام دائم دون إيجاد حل للنزاع القائم بين الخرطوم والمتمردين في دارفور، وفيما يعيش ملايين السودانيين على شفا الكارثة. فالمأساة الإنسانية الهائلة الحالّة في دارفور نتيجة لفشل سياسي، وهي لذلك تتطلب حلا سياسياً. والمعونة الإنسانية ليست بديلا عن العمل السياسي - أو التردد في اتخاذ القرار السياسي. ويتعين على السياسيين في سائر مواقع الصراع في السودان، أن يعملوا، بدعم من الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والمجتمع الدولي، على إيجاد حل لوضع حد لأعمال الاغتصاب والعنف والقتل بصورة جماعية لآلاف المدنيين. من البديهي أن المرضى والجوعى في دارفور لا يمكنهم الانتظار إلى حين إيجاد حل سياسي طويل الأجل. فهم يحتاجون إلى المساعدة الآن، بغض النظر عما يحدث على الجبهة السياسية. والوكالات الإنسانية الأممالمتحدة، والهلال الأحمر، والمنظمات غير الحكومية الأخرى تعمل على مدار الساعة لتوفير المياه النظيفة، وإطعام الجوعى، وعلاج المرضى والمصابين. وبوصفنا من المهتمين بالشؤون الإنسانية، ليس لدينا أي دافع سياسي أو اقتصادي أو عقائدي. اهتمامنا الوحيد ينصب على مساعدة البشر الأفراد، أياً كان دينهم أو عرقهم أو انتماؤهم القبلي أو السياسي. والعاملون في مجال المعونة الإنسانية يمثلون جميع الأديان الرئيسية، ويأتون من جميع دول العالم، لكننا نتصرف بدافع من واجب أخلاقي حتمي واحد هو: حماية وإنقاذ الحياة البشرية. والنزعة الإنسانية السائدة في القرن الحادي والعشرين لها وجه عالمي. فالمعاناة والتعاطف الإنسانيان لا يعرفان حدودا. ويجب علينا أن نباشر عملنا بقدر كبير من التواضع، مع إدراكنا أننا سنحاسَب لا بما نقول بل بما نفعل استجابة للمعاناة الإنسانية حيث تقع. والناس في دارفور في غنى عن كلامنا المنمق، فهم بحاجة إلى أن يروا التعاطف الإنساني بالفعل. وعلى مدى أشهر، منعتنا الخرطوم من الوصول إلى مَن هم في أشد الحاجة إلى مساعدتنا. والآن يبدو أننا أخفقنا في حشد الموارد الدولية الكافية واستخدامها في الوقت المناسب. وبوصفنا أعضاء في الأممالمتحدة، يمكننا، بل يجب علينا، أن نفعل المزيد. فالاحتياجات الإنسانية في دارفور حرجة، والمياه النظيفة لا تتوفر إلا لنصف السكان المشردين. وهناك نقص حاد في الأغذية والرعاية الطبية. والناس مهددون بحدوث تفشّ مميت للالتهاب الكبدي والملاريا وغيرهما من الأمراض. ويعاني الكثير من الأطفال من سوء التغذية الحاد، والمخزونات الغذائية في جميع أنحاء دارفور قد نفدت على نحو خطير. وبما يوتزي خطورة هذه الأوضاع، فالمعونة وحدها لا تكفي لمساعدة أهالي دارفور. فالمعونة يجب أن تقدم مع توفير الحماية في آن. وتحقيقا لتلك الغاية، نؤيد بقوة الاتحاد الأفريقي ووجوده الموسع في دارفور. كما نحث حكومة السودان على توفير الحماية لشعبها. فالآلاف من الأسر الجريحة المشردة بحاجة إلى حماية مادية من الميليشيات التي تمارس القتل على هواها وتضرم النيران في القرى وتنتهك النساء وتخرّب مصادر المياه وتخلّف وراءها الموت والعار والدمار. لقد حان الوقت، بل انقضى الوقت، للتصرف بحسم لوقف نزيف المعاناة البشرية هناك، إذ ستموت عشرات آلاف كثيرة أخرى ما لم نتمكن من حشد الموارد المالية اللازمة لإطعام السودانيين المشردين الذين يبلغ عددهم 1.4 مليون شخص والذين يكافحون من أجل البقاء في بيئة قاسية لا ترحم. وقد طالبت الأممالمتحدة بتوفير مبلغ 535 مليون دولار أميركي لتأمين الأغذية والأدوية والمياه النظيفة والمرافق الصحية والمأوى بصورة طارئة لمساعدة النازحين من المدنيين والمجتمعات المحلية المستضيفة لهم في دارفور وتشاد. وحتى الآن لم يف المانحون الدوليون سوى بما يزيد قليلا عن نصف المبالغ المطلوبة في هذه المناشدة العاجلة، كلها تقريبا من بضعة بلدان في أوروبا وأميركا الشمالية. ولا يمكن أن تكون عواقب التقاعس عن الاستجابة أقسى من ذلك. إذ تقدر الأممالمتحدة أن أكثر من مليوني شخص سيكونون في حاجة ماسة إلى المساعدة بحلول نهاية العام. وإذا لم يتوفر التمويل المطلوب على الفور، سيجوع الأطفال ويهلك المرضى والمستضعفون - كل ذلك تحت سمعنا وبصرنا. وقد أسهمت حكومات المنطقة، بما في ذلك حكومات الإمارات العربية المتحدة والكويت ومصر والمملكة العربية السعودية، في جهود الإغاثة، إلا أنه يلزم توفير أكثر من ذلك بكثير لتلبية الاحتياجات الإنسانية الساحقة في دارفور. والدول الإسلامية عليها أن تضطلع بدور حاسم في الجهود الإنسانية، فهي تستطيع، بل ينبغي لها، أن تفعل المزيد لكي تظهر صدارتها في هذا الصدد. ويمكن للمانحين الإسلاميين أن يكونوا سببا رئيسيا في إنقاذ الأرواح بمساهمتهم في الجهود الإنسانية التي تبذلها الأممالمتحدة أو الهلال الأحمر. لماذا ينبغي ان يتجه العطاء الى الأممالمتحدة وشركائها من مقدمي المساعدة الإنسانية؟ أولا وقبل كل شيء، لأنها تتميز بوضع فريد يمكّنها من توصيل المساعدات على نحو فعال إلى أكبر عدد ممكن. وبوصفها طرفا فاعلا محايدا وغير متحيز، فإن الأممالمتحدة محل ثقة جميع الأطراف في السودان لتقديم المساعدة الإنسانية على أساس الحاجة وحدها. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، عملنا بدأب لإتاحة إمكانية وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المدنيين المحتاجين. وثانياً، فإن وكالات الأممالمتحدة لديها القدرة اللوجستية والخبرة الفنية والقوى البشرية اللازمة للاستجابة للكم الهائل من الاحتياجات في دارفور. وثالثاً، هي ملزمة بأن تتسم تعاملاتها بالشفافية، وتكون خاضعة للمساءلة أمام جميع الدول الأعضاء في عملياتها المالية. وحري بالدول الإسلامية، وهي تشكل قوة لا يُستهان بها في المجتمع الدولي، ألا تسمح بأن يقال عنها إنها تركت صرخات المعاناة في دارفور دون أن تلقى آذانا صاغية. فالمبادئ الأخلاقية التي تجعل الإسلام أحد الأديان العالمية الكبرى، تؤكد ضرورة العمل في تكاتف بعزيمة متحدة لتقديم يد العون لمن هم في أمس الحاجة إلى مساعدتنا. وإننا لا نستطيع أن نتذرع بأي أعذار، ولا نستطيع الاختباء وراء ادعاءنا بالجهل. فنحن نعلم الحقيقة: هناك 1.4 من ملايين البشر مشردون، والآلاف ماتوا بالفعل، والموارد المتاحة آخذة في التضاؤل. ما الذي تنقصنا معرفته؟ وماذا ننتظر؟ - جان إيغيلاند وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ.