نجح الواسطي القرن السابع ه/ الثالث عشر م - مستلهماً التراث - في أن يترجم الصورة الذهنية التي تراكمت في الوجدان الشعبي العربي إلى واقع زاهٍ مفعم بالتأويلات الجمالية والإبداعية من خلال 99 رسماً لمقامات الحريري 446ه = 105م - 516ه/ 1122م الخمسين، التي سبقته بنحو مئة عام. هذه المقامات الأشهر كانت عبارة عن مغامرات يقصها الحارث بن همام، وبطلها أبو زيد السروجي، وهما ترافقا معاً ولاقيا جملة متاعب ومشاكل ومفارقات. يحاكينا الواسطي، عبر هذه المنمنمات، مفضياً إلينا بدلالات فنية ريادية عكست ببراعة وتقنية عالية صورة حضارة مشرقة. ويعتبر اسم يحيى الواسطي استثناءً في توقيع لوحاته التي أرّخ للفراغ منها يوم 3 آذار مارس 1237، على مجلد يتألف من 167 صفحة بمقاس 37×28سم، هو اليوم محفوظ في متحف اللوفر في باريس. هذه التحفة الفنية والتراثية لم تغب عن الاهتمامات العربية المعاصرة. ففي مناسبة احتفالية لافتة، أعاد العراق، لأربعين سنة خلت، إنتاج منمنمة "لوح الابتهاج برؤية هلال شوال" لصاحب مدرسة بغداد للتزويق، على واحد من أجمل طوابعه البريدية. شكل هذا الطابع المتفرد، مع ثلاثة طوابع أخرى، أحدها يحمل رسم "بغداد المدورة"، والآخر رسم "الكندي"، الإصدار المعنون "احتفالات بغداد والكندي" 1962. والمناسبة "البغدادية" الصرفة اتت بهذه الطوابع المنمنمة باعتبارها نموذجاً ايقونوغرافياً لعاصمة الرشيد بغداد، وكان لمدرستها الفنية نصيبها برسم من أجمل ما حفظ لنا. موضوع الإبتهاج برؤية هلال شوال، أي حلول عيد الفطر، الذي أبرزته المنمنمة الواسطية، لم يُقارب في عوالم المنمنمات البريدية، باستثناء وحيد - في حدود معلوماتنا - يمثله الطابع الصادر عن إدارة البريد الأميركية، والمعنون "عيد مبارك" في إشارة الى عيدي الفطر والأضحى 2001، قبيل أحداث 11 أيلول سبتمبر. تألف البناء الأساسي التشكيلي لهذا الطابع المعبِّر من عنوان ملون باللون الذهبي، على خلفية من اللون الأزرق الداكن. وعبر عملية تماهٍ واضحة، استحضرَ هذا التزاوج اللوني سمةً من السمات البارزة في المدرسة الفنية الإسلامية المعروفة. أما الحروف التي دونت بخط الثلث بتناغم واضح، فبرزت في وسط الطابع" متحولة من هيئة الدلالات الرمزية، أي مستوى الكتابة، إلى تشكيل حروفي صيغ بانسيابية بنائية عوّضت عن انعدام الصورة أو الرمز لفكرة "العيد" ومعانيه في التقليد الإسلامي . ونسجل، مع الأسف، أن مناسبة الاحتفال بعيد الفطر المبارك لم تكرّس كما ينبغي في مخزوننا الطوابعي العربي. وفي محضر الشهر الكريم، تبدو العلاقة بين الطابع التذكاري والمجتمع غير متكافئة، ولا تعكس الواقع. فهو مقصّر في استحضار معالم فريضة صوم رمضان، ومعانيه، وشعائره الشديدة الالتصاق بحراكنا اليومي، وتصويرها وترميزها رسمياً. وللأمانة العلمية، سنعرض بعض العناوين التي استقيناها من مخزوننا العربي، والتي نعتبرها لافتة وإن كانت تشكل في مجملها حالات منفردة. اخترنا من عقد السبعينات مجموعة من أربعة طوابع تشكل وحدة تصميمية متكاملة متناهية الدقة وشديدة الثراء. حملت هذه المجموعة السعودية أسماء الأئمة الأربعة: أبو حنيفة النعمان 80ه-150ه، ومالك بن أنس 93ه-179ه، ومحمد بن ادريس الشافعي 150ه-204ه، وأحمد بن حنبل 164ه-241ه. ومن الثمانينات، نختار مناسبة حلول القرن الخامس عشر للهجرة والتي توّجها المسار الطوابعي في العام 1980 يوم أصدرت معظم الدول العربية طابعاًً تذكارياً للمناسبة. أما من التسعينات، فنختار من المجموعة السعودية عنواناً تكرر سنوياًً موضوعاً وشكلاً، وقدم لكل من غزوة بدر الكبرى 17 رمضان - السنة الثانية للهجرة، وغزوة أُحد 15 شوال - السنة الثالثة للهجرة، وغزوة الخندق شوال-السنة الخامسة للهجرة، وغزوة خيبر محرم-السنة السابعة للهجرة، وفتح مكة 21 رمضان-السنة الثامنة للهجرة، وغزوة حنين شوال-السنة الثامنة للهجرة، وغزوة تبوك رجب-السنة التاسعة للهجرة. وبالعودة إلى التحفة الفنية الرائعة "مقامات الحريري"، بالنظر إلى حِرَفيتها ورسومها، نشير إلى أن نسخة طبق الأصل لهذا النص الأدبي الفريد في الأدب العربي عرضت أخيراً في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب. وتحتوي هذه النسخة - التي تعتبر الأولى من نوعها في العالم في ما يختص بالفن الإسلامي- على 334 صفحة جُلدت بحسب تقاليد فن التصحيف الإسلامي. * كاتبة لبنانية مهتمة بتاريخ الطوابع البريدية في العالم العربي.