التداعيات اللغوية التي ترشح من الأجواء الدينية الرمضانية تشكل نسقاً تعبيرياً شبه متكامل يحتضن منظومة من الأدعية والابتهالات والأناشيد والأذكار والأوراد، ناهيك عن عبارات التهنئة والتبريك وطلب المغفرة وسواها... هذه "المحطات اللغوية" الرمضانية التي تتموضع في أخلاد المؤمنين وممارساتهم، وتبلور صيغاً وتراكيب، تنتعش إذاً في فضاء إيماني يوفر لها امكانات التأثر والتأثير. فرمضان الذي يستحضر المؤمنون "لغته" مرحبين بقدومه "هلّ هلالك يا رمضان"، "أهلاً رمضان" ومثيلتها اللاتينية Ahlan Ramadan، يتباركون بحلوله بينهم "مبروك علينا رمضان"، ويرددون مع بعضهم بعضاً التعبير الأحب إلى قلوبهم "رمضان كريم". اشتقوا منه صيغاً، فقالوا "فلان رَمْضَنْ" فهو "مرَمْضَنْ" ودُعيَ إلى حفل سحور في "خيمة رمضانية". ونتوقف عند المثل الشعبي الذي يمتلك وظائف متعددة ومتقاطعة، تصب في مجملها في تحقيق هدف من يتخذها معراجاً. وهو لا ينبت من فراغ، ولا يقرأ بمعزل عن ظروف انتعاشه. لذا فالذهنية التي تحكم المثل تتعدد، تتناقض، تتكامل، تتوافق وتتناغم. في مطلع شهر رمضان المبارك نستحضر نماذج من هذه الأمثال المنتمية إلى القطاع الشفهي من ثقافتنا العربية الإسلامية، باعتبارها أبلغ معبر عن أحوالنا وخير مفسرٍ لعقليتنا ومؤثرٍ في جملة سلوكياتنا وأدبياتنا الاجتماعية. لم تغب المناسبات الدينية عن هذا المخزون التعبيري الشعبي. لذا، من المفيد معاودة قراءة بعض هذه الأمثال في ضوء رؤيتها لهذه الفريضة الشرعية، والتعامل مع أحكامها، وتحفيزها المؤمنين على ضرورة القيام بها. ثمّة إجماع على ارتباط شعيرتي الصوم والصلاة. لذا، تنادي الأمثال بضرورة امتثال المؤمن وإكماله الفرائض جميعها: "صوم وصلّي رزقك على الله"، لأن "الصوم بلا الصلاة مثل الراعي بلا عصاه". وتؤكد ضرورة اندراجها في سلوكه اليومي "كل شيء عادة حتى الصوم والصلاة والعبادة". وبغية تشجيع المؤمن على تأدية هذه الفريضة، وانسجاماً مع الحديث الشريف: "صوموا تصحوا"، يقول المثل "صحة البدن بالصوم"، مع الاستدراك بأن "صايم الدهر ما إلو أجر". المثل الشعبي المصري يستعيد إلى حد كبير المضامين الإيمانية ذاتها، ويحذر من مغبّة تركها لئلا تنعكس على معيشه. فتأدية هاتين الفريضتين واجب يلحق بتاركهما العيب "ما تعيبوا يا قوم إلا على تارك الصلاة والصوم". والحكمة الشعبية المصرية تقيم وزناً للسحور، وتنصح بعدم التباطؤ مخافة فوات أوانه "إللي اتسحر اتسحر وإللي ما تسحر طلع عليه الفجر". كما تنصح بعدم تناوله مع الصغار لأنهم يأتون على الطعام "إللي اتسحر مع العيال يصبح فاطر". والمبالغة في الاهتمام بالطعام غير مستحبة "لو كان الطهي على دي النهى لا رمضان خالص ولا العيد جي". وعند الإفطار، يُذكّر الصائم بضرورة البسملة والحمدلة "إبدأ طعامك باسم الله والحقه بحمده"، و"من قال الحمد لله شبع". الاستعانة بالله لا ترتبط باستهلال العمل بل أيضاً عند الطعام. وبما أننا في محضر المآكل، فعادة خبز الكعك التي تشغل العائلة، قبل قدوم عيد الفطر، لها أمثالها، وبخاصة في مصر: "بعد العيد ما تفتلش كعك" أو "كحك". فكل شيء طيب في معاده، ولكعك العيد نكهته المميزة، فإذا انتهى العيد زالت أهميته. ومن الطبيعي أن يخرج هذا المثل وسواه عن الدلالة الرمضانية المباشرة ليشير إلى الأمر الذي انتهى وتجري محاولات للقيام به بعد فوات الأوان. وقبل العيد يحلّ يوم الوقفة الذي لم يستثنه المثل "إللي يكدب نهار الوقفة يسوّد وشه نهار العيد". لأيام الصوم إيقاعها الزمني المتباطئ بالنسبة الى البعض. لذا تشجع الحكمة الشعبية على الكلام عن تناقصها "إذا عَشّر بشّر". ويبدو أنها كانت تردد من جانب عجائز مكة كي تطمئنّ النفس باقتراب انتهائه. ولكن البعض يتذمّر، فيقال عنه، في ليبيا، "صام يوم في رمضان. قال آش قِداشْ ما زال فيه". وهو يضرب للسخرية من المتسرع الذي يملّ من العمل المقبل عليه ويتعجل نتائجه. وفي المقابل، يظهر البعض تعلقاً مغالياً به "من محبتي فيك يا رمضان نزيدوك نهار". وندرك بالطبع أن الكلام الظاهر يناقض النية المضمرة. أما الصبي المفطر، فيقال عنه تهكماً "صايم لِطَلْق الحمام"، بمعنى أنه غير صائم، لأن الحمام يطلق من أبراجه عند طلوع الفجر. ومتى أرادوا أن يسخروا من أحد مدّعي الصيام، قالوا إنه يصوم "صوم الدجاجة والديك". اما من ادعى الحزن على زوال الشهر، فقالوا عنه "ما عم يبكي على رمضان، عم يبكي على أكلاته" أو "عَ شهواته"، أو "عَ احنيناته". وهذان الأخيران يضربان لمن يؤثر الفائدة على الأجر والعبادة. وفي معرض الانتقاد اللاذع، ثمة مثل يرمز إلى فوات الأوان "سمّوك مسحّر خلص رمضان" سورية ولبنان، و"عملوك مسحّر قال فرغ رمضان" مصر. وهو يقابل المثل المعروف "يطعمك حِجّة والناس راجعة". ولم يفوت المثل موضوع رجحان كفة الانهماك بالاستعداد للعيد على الصوم لدى البعض. فالتي "صامت يوم واتهندزت للعيد" الأردن، "تخططت" في لبنان و"تمخطرت" في مصر. أي أنها لم تصم إلا اليوم الأخير ثم قامت تتغندر مستقبلة العيد. التنوع المعجمي اللغوي يبدو في مثل رائج يشيع بمدلوله المجازي. هذا المثل القديم الذي أورده الإبشيهي "صام سنة وفطر على بصلة"، يتداول في كتب المأثورات الشعبية وفق إحدى عشرة صيغة. فالسنة تصبح "عاماً" و"يوماً" و"دهراً"، و"حولاً". وهذه بدائل مستساغة. لكن الطريف هو أن البصلة الموعودة تصبح جرادة، جرادة منتنة، جرانه الجزائر والمغرب، بلّصام اليمن، معلاق حمص، ثمرة، جرية سمك رديء في العراق، تمره، خبز شعير، ثوم... وهي تدل بمعناها الحقيقي على من صام وأفطر على شيء زهيد لا يغني من الجوع. والمثل يضرب لمن يمتنع عن شيء مدة ثم يقع في أردأ أنواعه. وثمة مثلان آخران يستندان إلى شهر الصوم كإطار مرجعي اجتماعي، "خلط شعبان برمضان" و"ما بيعجبه عجب ولا الصيام برجب"، ولكنهما خرجا في دلالتهما الموسعة على المعنى الأصلي. هذا الغيض من فيض الأمثال الشعبية الذي أوردنا نماذج منه تعود لمختلف بيئاتنا الثقافية هو لسان حال الجماعة اللغوية العربية في تعاطيها مع فريضة دينية محددة. تجليات هذه الأمثال وتنوعها المعجمي الدلالي وصدقيتها في نقل الوقائع المعيشة تؤكد أنها تشكل مع غيرها من أعمدة الثقافة الشعبية خزانة تراثية نفيسة ينهل منها الفرد والجماعة. ومن أولى من مناسباتنا الدينية والاجتماعية في إحياء هذه المأثورات الشعبية وفي رفدها بالجديد الذي يعكس حِراكنا الاجتماعي. * كاتب لبناني وأستاذ جامعي.