ما لا يدركه كل الجزائريين تقريباً هو أن بلادهم كانت ممثّلة في "المؤتمر الصهيوني الأول" في بال سويسرا سنة 1897، وذلك من طرف شخصيتين من أعيان يهود الجزائر، أحدهما هو ايلي غزلان الذي سيصبح في الثلاثينات من القرن العشرين أحد مرتادي نادي الترقي بساحة الشهداء وأحد أصدقاء الطيّب العقبي وعبدالحميد بن باريس. هذا يعني في ما يعنيه ان الحركة الصهيونية في الجزائر ليست "ابنة الأمس" وان كان حضورها آنذاك ليس بالضخامة التي قد نتصورها. فيهود الجزائر الذين كانوا في عز قطف ثمار مرسوم كريميو 1870 ومدرسة جول فيري 1884 وفي عز الارتقاء اجتماعياً وسياسياً وادارياً وحتى عسكرياً، لم يكن معقولاً بالنسبة اليهم أن يتخلوا عن كل هذه المكاسب الهائلة التي حسدهم عليها المعمّرون، نزولاً عند رغبة الحركة الصهيونية. وظهور الصهيونية في الجزائر، جلب لها بضع مئات من المناضلين حتى الحرب العالمية الأولى، كما أدّى الى انشاء الهياكل الجمعوية الأولى والأساسية للنضال الصهيوني. بالتالي منذ العقد الأول من القرن العشرين ظهرت منظمات صهيونية في جوهرها، مدنية في ظاهرها، لتضاف الى رصيد الرابطة الاسرائيلية العالمية التي تأسست في 1860 ونشرت مدارسها وهياكلها مبكراً في الجزائر، أي منذ نهاية القرن التاسع عشر. أهم المنظمات المنبثقة عن الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية العالمية هي أولاً خلايا هذه الأخيرة التي بدأت تنتشر في المدن وتروج لفكرة انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، في الوقت الذي أنشئت شبكة تضامنية اجتماعية - اقتصادية لمساعدة يهود الجزائر وتنظيمهم. كما ظهرت منظمات "بناي بريث"، "درور"، "هاشومير"، "بني آكيبا"، إضافة الى حركة البيتار... أهم نشاطات هذه الأخيرة يتمثل في الدعاية الصهيونية، محاولة التحدث باسم كامل طائفة يهود الجزائر من خلال نسج شرعيتها من العمل الخيري والاجتماعي وتنظيم شؤون الطائفة بحسب نماذج وهياكل عصرية، جمع الأموال والتعبئة وراء المُثل الصهيونية، تنشيط حركات كشفية يهودية والتدريب شبه العسكري، تنظيم شبكات التطوع والهجرة الى فلسطين بطريقة سرّية، سرّية على الجزائريين وليس على الإدارة الفرنسية التي كانت متواطئة معها، حيث أُنشئت مراكز عبور موقتة في سيدي فرج وبوزريعة ثم في حي مناخ فرنسا مثلاً لاستقبال يهود المغرب الأقصى ريثما يتم ترحيلهم الى فلسطين. أقول يهود المغرب الأقصى، لأن القليل من يهود الجزائر استهوتهم فكرة الرحيل الى الأرض الموعودة قبل الثورة التحريرية، وحتى الذين ذهبوا في ما بعد الى فلسطين كانوا في غالبيتهم من الفقراء جداً الذين لم يكونوا يملكون حتى امكانات الرحيل الى فرنسا كغيرهم، مثل يهود غرداية الذين تكفّلت الوكالة اليهودية العالمية في 1961 بجميع نفقات هجرتهم، في حين فضّل أغنياء يهود غرداية ومتوسطوهم الاستقرار في منطقة ستراسبورغ ثم في باريس. كما احتضنت الجزائر منذ بداية القرن العشرين لقاءات ومؤتمرات صهيونية - يهودية مهمة في رعاية ادارة الاحتلال، من بينها على سبيل المثال، ندوة شمال أفريقيا للمؤتمر اليهودي العالمي التي جرت في مدينة الجزائر أيام 7، 8، 9 حزيران يونيو 1952 والتي ترأسها جاك لزاروس، وهو يهودي فرنسي دخل الجزائر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كلّفته الحركة الصهيونية العالمية الاستيلاء على تمثيل طائفة يهود الجزائر حتى تتحول الى اداة في يدها لخدمة أهدافها، فأنشأ اللجنة اليهودية للدراسات الاجتماعية C.J.A.E.S واتخذ لها مقراً في المكتبة اليهودية بشارع ديدوش مراد المقرّ الحالي للآرسيدي وأسس لها جريدة تحولت الى لسان حال يهود الجزائر، هي "الخبر اليهودي". وما إن جاءت سنة 1957، السنة التي دعت فيها الثورة التحريرية بصفة رسمية يهود الجزائر الى الالتحاق بها، حتى كان موقف اللجنة اليهودية ورئيسها جاك لزاروس أقوى من موقف الحاخام الأكبر موريس ايزنبث الذي كان السلطة المعنوية الأعلى منذ الثلاثينات لدى الطائفة اليهودية في الجزائر. وقفت هذه الأخيرة في شكل حاسم الى جانب الاستعمار منذ 1957 سواء على لسان الحاخام الأكبر أو على لسان الصهيوني لزاروس، ما يفسر الرحيل الجماعي في 1962 الذي لعبت الصهيونية فيه دوراً مهماً، إذ قامت بإشاعة الخوف على مستقبل اليهود في الجزائر إذا استقلّت. منذ سنة 1956 - 1957، بدأت اسرائيل تهتم مباشرة بيهود الجزائر، وظهر ذلك في مستويات عدّة، إذ كان القادة الجزائريون من فرحات عباس الى بن يوسف بن خدة وغيرهما يتعرّضون في شكل مكثّف خلال ندواتهم الصحافية الى سيل من الأسئلة حول مستقبل يهود الجزائر. وأرسلت المبعوثين، سرّاً أو جهراً، نذكر منهم عميلي الموساد، اللذين ورد ذكرهما باسم بن فرّه وصالح، إذ جاءا في مهمة سرّية سنة 1958، وبعد أيام في الجزائر، فقدت أخبارهما، وقيل ان الثورة نفذت فيهما حكم الإعدام. وكان رجال جوزيف أورتيز أحد قادة المعمّرين المتطرفين وأحد قادة منظمة الOAS بعد أشهر، يتباهون في مدينة الجزائر بوجود عناصر من عصابات الإرغون الاسرائيلية التي كان مناحيم بيغن من أبرز زعمائها، ضمن خلاياهم الإرهابية، والذين بحسب كلامهم، تقول أوجين مانوني، "كانوا يواصلون معركتهم الشرسة ضد "العرب" التي بدأوها من قبل في فلسطين". التحاق عصابات الإرغون بمنظمة الOAS من اسرائيل لم يبق سرّاً وتسبّب في غضب الجنرال ديغول الذي هدّد قادة اسرائيل بالرّد إن لم يسحبوا فوراً عناصرهم، خوفاً منه على مصير اتفاقات ايفيان التي كانت الOAS وبعض الجنرالات الانقلابيين ضده يهددون بنسفها في الميدان... وسحبت اسرائيل على الفور عملاءها. ومن بين حوالى 141000 يهودي كانوا في الجزائر في بدايات الأربعينات لم يبق في السنوات الأولى من الاستقلال سوى 3000 الى 5000 يهودي، وهو عدد سيتناقص تدريجاً، خصوصاً بعد تفكيك مصالح الأمن في نهاية الستينات بأمر من هواري بومدين شبكة مناضلي "شهود يهوه" وتنفيذه حكم الإعدام في اليهودي ديزيري الدرعي بتهمة ارتكاب جرائم اقتصادية.منذ تلك الفترة، لا تتوافر معطيات عن النشاط الصهيوني في الجزائر لكن هذا لا يعني أنه غير موجود.