مشاهدة التلفزيون العربي تكشف هيمنة عالمين متناقضين من البرامج: كثافة في برامج الحوارات السياسية والفكرية، وأخرى في برامج المنوعات وما تحتويه من أغان جديدة، أو حوارات سطحية مع نجومها، وفي الحالين ثمة ما يشبه نمطية دائمة، تتكرر في صورة شبه يومية، ففي حال برامج الحوارات أوشك المشاهدون العرب أن يحفظوا عن ظهر قلب قائمة الأسماء التي تشارك في الحوارات، والتي صار حضورها على شاشاتنا الصغيرة فرض عين، لا يتبدل إلا قليلاً. والأهم من ذلك كله أن هذه البرامج تتصف غالباً بخروجها عن أصول الحوار وتقاليده، فتتحول إلى نوع من الصخب والمشادات العنيفة التي يعجز معها مقدم البرنامج عن تهدئة المتحاورين والعودة بهم إلى جادة البرنامج. أما برامج المنوعات فهي بدورها صارت أشبه ببرامج دعائية مقنعة لما تنتجه شركات إنتاج الفيديو كليب العربية، إذ تقوم على استضافة مغنين والحديث معهم عن آخر البوماتهم في صورة سطحية ساهمت ولا تزال في تسطيح وعي الجمهور وإقناعه من خلال التكرار الممل بنجومية هذا المغني أو ذاك، بل وتحويلهم إلى نماذج ومثل عليا براقة، يحلم جمهور المراهقين بالسير على خطاهم، وإلا كيف يمكن لنا أن نفهم استضافة إحدى القنوات الفضائية "الغنائية" على مدار حلقة كاملة لراقصة شرقية من أجل الحديث وبإسهاب وثقة واعتزاز عن هروبها من عائلتها من أجل تحقيق هدفها في الحياة وهو امتهان الرقص الشرقي، بل كذلك الحديث ولمرات متكررة عن حصولها على شهادة جامعية، ولكنها فضلت عليها الرقص. الرقص ذاته نراه في صور أخرى، من خلال الاستماع إلى حوارات الطرشان التي يشتعل خلالها الجدال بين المتحاورين، ويجد المشاهد نفسه إزاءها وقد أضاع وقته من دون الوصول إلى الحقيقة، بل لعله يصل إلى حال من البلبلة والتشتت الفكري التي لا يجد سبيلاً معها إلى معرفة الحق من الباطل. العلة الأهم في الحالين، البرامج الحوارية وبرامج المنوعات، هي في السطحية والارتجال اي ملامسة الظواهر من الخارج، وعدم التعمق في بحثها، ناهيك بأنها في الغالب لا تستضيف الأشخاص المناسبين، المتخصصين، والذين يملكون المعلومة قبل الرأي، إن لم نقل إلى جانب الرأي والتحليل. نقول ذلك وقد لمسنا خلال السنوات القليلة الماضية أثر هذا الارتجال الإعلامي على ضحالة ما يحمله المواطنون العرب من وعي إزاء قضاياهم الأهم، وهي ضحالة تتحول إلى فضيحة حينما نشاهد البرامج التي يدلي خلالها المواطنون العرب بآرائهم في الأحداث السياسية الكبرى، فقد ساهمت الفضائيات العربية على اختلافها في تضليل وعي المشاهدين من خلال حضور الصورة في شكل استخدام سيئ ، رأيناه ينعكس سلباً في فهم ظواهر سياسية شديدة الخطورة كالإرهاب مثلاً، وأهمية إدراك الفوارق الهائلة بينه وبين المقاومة، وما يتصل بذلك من مفاهيم عن الآخر ونظرتنا إليه في صورة مغلوطة عززت الأوهام عن عداء العالم لنا، وعن مؤامرات كونية يشارك فيها الجميع ضدنا. قصور الرؤية الفكرية لمعظم المحطات الفضائية العربية ظهر في صورة واضحة خلال الفترة القليلة الماضية مع تفشي ظاهرة اختطاف الرهائن في العراق، إذ لم تنجح هذه الفضائيات في إدارة حوارات جادة ومسؤولة، وفشلت في تقديم دور إعلامي يقوم على المهنية والابتعاد عن التهويل والشحن العاطفي الخاطئ، بل المدمر، فيما كانت قطاعات واسعة من المجتمع المدني العربي في الأقطار العربية وخارجها تدرك بوعي صحيح حقيقة ما يجري وتجد له التفسير الصحيح، من دون أن تنعكس آراؤها ونشاطاتها الفكرية والسياسية في ما تقدمه الفضائيات العربية من برامج ونشرات إخبارية وحوارات. لعل المثال الأوضح والأشد سطوعاً على ما نقول، ما قامت به الجالية العربية والمسلمة في فرنسا منذ اختطاف الرهينتين الفرنسيتين، وهي وقائع كان يمكن للمحطات الفضائية العربية أن تسهم من خلالها في خلق حال وعي بين صفوف المشاهدين، ولكنها عجزت عن فعل ذلك أو تقاعست!. الفضائيات العربية مفتوحة على بث دائم، ولكن علاقتنا بالبث التلفزيوني الفاعل والمفيد لا تزال تراوح في دوائر ضيقة.