كان العرب على مر العصور في اتصال دائم مع الشعوب الأخرى، وكان لهم نصيب وافر في تطور الحضارة. واستمر تواصلهم في عهد الخلفاء الراشدين، خصوصاً مع الفتوحات العربية الإسلامية في عهد خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب. وقضى العرب المسلمون على الدولة الفارسية، وانتزعوا بلاد الشام ومصر من الدولة الرومانية. ولم يكتفوا بفتح تلك الأمصار وحكمها فحسب بل حاولوا أن ينشروا فيها حضارتهم ودينهم الحنيف، ووجدوا أنفسهم منساقين إلى الاختلاط والامتزاج بالعناصر البشرية الأخرى. ففي الأمصار المفتوحة، تقبل كثيرون من غير العرب الإسلام ونزلوا الحواضر العربية وامتزجوا بالناس، وأخذ هؤلاء جمعياً يشتركون في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة. وشمل الامتزاج نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والدينية. ولما كان العرب أقل حضارة من كثير من الشعوب الخاضعة لهم، فقد اقتبسوا منها كثيراً من مظاهر الحضارة، وبخاصةً النظم الإدارية، ولكنهم فرضوا على هذه الأقوام شيئين عظيمين: اللغة والدين، إذ سادت اللغة العربية، وهزمت اللغات الأخرى وأصبحت لغة الإدارة والعلم. لم يكن سكان الأمصار المفتوحة غرباء على العرب الفاتحين، كما أن فروقهم الدينية لم تقف حائلاً أمام تكوين مجتمع سرعان ما تكلم العربية واعتنق الإسلام. فقد كانت الحضارات زمن الفتح العربي الإسلامي متقاربة في مختلف المناطق. فالحضارة الإغريقية غلبت الحضارة الرومانية في القسطنطينية وهذه أخذت الكثير من الحضارة الفارسية، لاتصالهما السياسي والحربي، كما أخذ الفرس عن اليونان من قبل. ومن المؤكد أن الحضارة العربية الإسلامية كانت في أول الأمر مزيجاً من الحضارتين الآرامية والعربية، ولكن هذا لم يستمر بعد اختلاطها بالحضارات اليونانية والرومانية والفارسية وحضارات وسط آسيا. لقد استطاع العرب أن يرسوا قواعد دولة قوية ظهرت أثناء عهد الأمويين الذين اعتمدوا على العنصر العربي في إدارة الدولة وقيادة الجيوش، وتجلّت سياسة الأمويين في تعصبهم للعناصر العربية وصراعهم مع سائر الأجناس من الموالي وغيرهم. وظهر هذا الصراع في نواح عدة، منها الجزية والعطاء والخراج والآداب والعلوم والفنون والوظائف. كما أنهم تابعوا سياسة الفتح، فأرسل معاوية بن أبي سيفيان جيوشاً غزت السند وإفريقيا في الأطراف الشرقية للدولة. وفي عهد الوليد بن عبدالملك فتحت السند وبخارى وخوارزم وسمرقند، كما فتحت الأندلس. وأدت هذه الفتوحات إلى تعريب لغوي وجنسي، وإلى ظهور حضارة عربية زاهرة، تجلت في بروز العديد من العلماء، وانتشار سريع لمختلف العلوم العقلية بكل فروعها. وقد لعبت اللغة العربية دوراً كبيراً في مزج القوميات والحضارات والعناصر المختلفة المتنافرة في الأمصار المفتوحة، فقد أدى استعمال اللغة العربية إلى اندماج الأجناس المغلوبة على اختلافها اندماجاً قوياً في الحياة العامة، فربطت العربية كل البلاد برباط معنوي قوي. وتابع العرب فتوحاتهم، فوصلوا الى شبه جزيرة أيبيريا، بعد سلسلة من الحروب دامت حوالى أربع سنوات، فقد بدأ الفتح في رجب سنة 92ه وانتهى في أوائل سنة 96 ه. وكان عملاً خارقاً نظراً الى كون البيئة الجغرافية والأحوال الطبيعية تجعل من أيبيريا قطراً وعراً لا يسهل فتحه عسكرياً، وقد حاول كثيرون من الغزاة فتح هذه البلاد، فأخفقوا بينما نجح العرب في مدة وجيزة. وكان الوجود العربي في إسبانيا رحمة، فقد قضى على الحكم القوطي، وكان العرب كرماء مع أمراء القوط، إذ أعادوا جوليان إلى الحكم، وردوا إلى بعض الأمراء أموالهم وضياعهم. وبعد أن كان اليهود موضع اضطهاد من القوط، عاملهم الحكم العربي بتسامح تام، فأصبحوا يأمنون على أرواحهم وأموالهم ويمارسون الحرية الدينية والملكية ويزاولون التجارة. وأقبل كثيرون من اليهود على الاشتغال بالعلوم والآداب والطب والفلسفة، وظهر من بينهم علماء ومفكرون. كما تمتع الرقيق في اسبانيا بمعاملة حسنة ورحيمة، بعد أن لاقوا، في ظل الحكم القوطي، الاضطهاد والتعسف، ومنحهم العرب الحقوق المدنية وحق ملكية الأرض وزراعتها. وقضى العرب على العنصرية والاضطهاد، وساووا بين الطبقات المختلفة، وحفظوا التوازن بين الأجناس المتعددة. لذا ارتاح السكان إلى الحكم العربي الذي تميز بالتسامح والمساواة والإنصاف. وأقبل الكثير منهم على اعتناق الإسلام وتعلّم اللغة العربية. ويشيد المؤرخ توماس أرنولد في كتابه «الدعوة إلى الإسلام» بتسامح العرب المسلمين الذي ساعد على توطيد الحكم العربي الإسلامي، ونشر الحضارة العربية التي انتقلت إلى ممالك أوروبا، ولم يستفد قطر من أقطار الغرب ما استفادته إسبانيا من العرب، ولما غادروها فقدت صناعتها وزراعتها وعلومها، وأصبحت بعد فترة من خروج العرب أحط بلاد الغرب ويقول ستانلي لا نبول، إن فضل مسلمي الأندلس يتجلّى في همجية الإسبان وتأخرهم، بعد أن خلت أرضهم من الإسلام. ان الشواهد التاريخية على إعجاب الإسبان المسيحيين بالحضارة العربية كثيرة، فلقد كان الإسبان يملأون أجواء أوروبا بالمديح والإعجاب بأعمال العرب وحضارتهم وشرائعهم ومعاهدهم ونظمهم، والعمران الذي أدخلوه على البلاد الإسبانية. ومن الأمثلة على ذلك ما أرسله الملك فيليب البافاري إلى الخليفة هشام الأول، يسأله السماح له بإيفاد هيئة تشرف على أحوال الإندلس ودراسة نظمها وثقافتها، حتى يتمكنوا من اقتباس ما يفيد بلادهم. وقد وافق الخليفة على هذا الطلب. ثم أخذ بعض ملوك أوروبا ينسجون على منوال الملك البافاري، فأرسل ملك إنكلترا جورج الثاني الأميرة دوبانت ابنة أخيه على رأس بعثة من 18 فتاة من بنات الأمراء والأعيان إلى إشبيلية، يرافقهن رئيس موظفي القصر الملكي. ثم تلت هذه البعثات وفود أخرى قدمت من فرنسا وإيطاليا والبلاد الواطئة ملأت معاهد غرناطة وإشبيلية واقتبست من الحضارة العربية الأندلسية العلوم والآداب والفنون. ولم تكتف أوروبا بإرسال مثل هذه البعثات العلمية، بل استأجرت دول أوروبية في أواسط القرن التاسع الميلادي وما يليه، الأساتذة والخبراء العرب لتأسيس المدارس والمعامل، وإحياء الصناعات، ونشر لواء العمران والتنظيم في بلدانها. إن مصانع الأندلس كانت تمد كل الدول الأوروبية بمختلف أنواع الأسلحة والورق. كما أن علوم الطب والصيدلة والجبر والفلك والكيمياء والجغرافيا في أوروبا قامت على أسس عربية صحيحة. وهكذا لم تقتصر الصلات بين العرب وسائر الأقوام التي دخلوا أمصارها على الفتوحات أو الغزو الحربي، بل كانت العلاقات أكثر عمقاً. فقد قامت صداقات وطيدة بين الدول العربية في المشرق والمغرب والأندلس، وبين دول أوروبا المختلفة، وشهدت القارة الأوروبية قدوم سفارات عربية تحمل نفائس عربية لتطلع الأوروبيين على نتائج الحضارة العربية، وأقامت جاليات عربية في مدن أوروبا، وأصبحت منارة للمدنية العربية وعقدت معاهدات تجارية بين العرب والدول الأوروبية. وبهذا يكون الحضور العربي في البلدان التي دخلها العرب، قد أعطى بعده الحضاري الإنساني، التي مكّنها من أن تغرف من ينابيع هذه الحضارة ما كانت تحتاجه من روافد العلم والفكر والثقافة. * كاتب لبناني