تدرك دمشق حقائق الوضعين الدولي والاقليمي. تدرك أن ليس لديها حليف دولي كبير على غرار ما كانته موسكو السوفياتية. فموسكو بوتين لا تستطيع توفير مظلة ولا تجييش دعم ديبلوماسي ولا تصلح حتى كمحطة انتظار لتحسين شروط التحاور مع واشنطن. وتدرك أيضاً أن العلاقة مع باريس لا توفر مظلة ولا تشكل بديلاً. وأن أهمية العلاقات مع لندن تكمن في قدرة حكومة توني بلير على لعب دور الترجمان بين سورية وأميركا من دون أوهام حول عواطف هذا الترجمان. وتدرك أن أوروبا صاحبة خبرة وتجربة في الشرق الأوسط، لكن المشكلة هي أن من يمتلك الخبرة يفتقر إلى القدرة، ومن يمتلك القدرة يفتقر إلى الخبرة. وتدرك دمشق أن الأممالمتحدة تصلح كمنبر لشرح المواقف ومحاولة الافادة من مظلة الشرعية الدولية، لكنها تدرك أيضاً أن هذه المظلة مثقوبة، وأن الأممالمتحدة تعيش حالياً في عصر الولاياتالمتحدة وزمن القوة العظمى الوحيدة. تعرف دمشق حجم الخلل الهائل في موازين القوى الدولية. وتعرف حجم التصدّع في الموقف العربي. وتعرف أن هجمات 11 أيلول سبتمبر غيّرت أميركا والعالم، وان الغزو الأميركي للعراق وضع منطقة الشرق الأوسط أمام أسئلة صعبة ملحة كانت تأمل في الاستمرار في ارجائها. على رغم التعاون الذي أبدته في "الحرب على الإرهاب"، تدرك سورية أن الهجوم الأميركي الذي يستهدف المنطقة يستهدفها أيضاً. لم يظهر حتى الساعة ما يشير إلى أن إدارة جورج بوش تسعى إلى اسقاط النظام السوري، لكن الواضح هو أنها تطالبه بتغيير سلوكه في أزمات المنطقة. وهكذا تبدو المشكلة وكأنها تدور حول دور سورية الاقليمي من النزاع العربي - الإسرائيلي إلى الوضع في العراق. بمعنى أن إدارة بوش لا تسلم بحق سورية في الاستمرار كقوة اعتراض في المنطقة. قوة اعتراض على السلام الناقص في فلسطين، وقوة اعتراض على البرنامج الأميركي لحاضر العراق ومستقبله. هكذا حاولت إدارة بوش تحويل ما كان يعتبر أوراق قوة في يد سورية إلى أسباب اتهام لسورية بدءاً من علاقتها بالمنظمات الفلسطينية ك"حماس" و"الجهاد"، مروراً بوجودها العسكري في لبنان، ووصولاً إلى تعاطيها مع الحريق العراقي. وفي هذا السياق جاء توقيع بوش على "قانون محاسبة سورية" وفتح ملف أسلحة الدمار الشامل وتسرب المقاتلين إلى العراق. وفي هذه النقطة تلتقي السياستان الأميركية والإسرائيلية. فالدولة العبرية تريد من سورية التفاوض بشأن الجولان وحده أي كخلاف حدودي. منذ توليه السلطة وجد الرئيس بشار الأسد نفسه أمام خيار صعب: إما الرضوخ للخلل الفاضح في موازين القوى دولياً واقليمياً، ولهذا الخيار ثمن، وإما التمسك بدور سورية الاقليمي مع السعي إلى توفير شبكة امان لموقفها هذا بتعزيز فتح النافذة الأوروبية وتحسين العلاقات الاقليمية وضبط التصدع العربي عبر توثيق العلاقة مع السعودية ومصر. وفي موازاة ذلك، تقوية الجبهة الداخلية بإطلاق عملية اصلاح وتطوير وتوسيع قاعدة الحوار. عدم الرضوخ للضغوط الأميركية من دون الانزلاق إلى صدام وابقاء باب الحوار مفتوحاً. وعدم الرضوخ للاستفزازات الإسرائيلية من دون الانزلاق إلى حرب غير متكافئة مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه تعزيز شبكة الامان والتي يمكن اعتبار زيارة الأسد التاريخية لتركيا إحدى محطاتها.