لا تحتاج سورية الى شروحات كولن باول لتدرك حجم التغيير الذي ضرب المشهدين الاقليمي والدولي. يكفي ان تلتفت الى الخريطة لتدرك ان الجيش الاميركي يقيم على حدودها وفي كل مكان تقريباً. ولا تحتاج الى من يذكرها بأن موسكو التي كانت حليفاً أو محطة انتظار لم تعد تصلح لمثل هذا الدور. وان باريس منهمكة هذه الأيام في احتواء آثار موقفها من الحرب الاميركية في العراق. وان حال الوهن العربي لا يحتاج الى شرح أو دليل. وان الخلل في موازين القوى على خطوط التماس العربية - الاسرايئلية بات صارخاً وفظيعاً. ولا أسرار في الرسائل التي وجهها باول قبل محطته الدمشقية وبعدها. قال ان العالم تغير من حول سورية وعليها ان تتغير. واضح انه يطالبها بطي صفحة دورها الاقليمي السابق معتبراً ان ركائزه قد اهتزت وان الاستمرار في التمسك به يضعها في مواجهة مع الولاياتالمتحدة. وبصورة أدق يمكن القول ان باول يطالب سورية بالتوقف عن ممارسة دورها كقوة معارضة واعتراض. يقول عملياً ان ما تعتبره أوراق قوة لديها هو في نظر واشنطن سبب للمآخذ عليها. انها محاولة مكشوفة للتعجيل في استثمار الانتصار الفاحش الذي حققه الاميركيون في العراق. محاولة لشل قدرة دمشق على الاعتراض على المشروع الاميركي لاعادة صياغة المشهد الاقليمي أو إعادة تشكيله. فصقور الإدارة الاميركية يعتبرون انه من الممنوع على دمشق ان تكون عمقاً لأي مقاومة عراقية محتملة. وان تستمر عمقاً للمنظمات الفلسطينية التي عارضت اتفاق اوسلو وحاربته وتعارض اليوم خريطة الطريق. أو أن تبقى عمقاً ل"حزب الله" وعملياته التي تذكر بغياب السلام العادل والشامل. وممنوع على سورية ان تبقى موصولة بنبض الشارع العربي والاسلامي على غرار ما كانته إبان الحرب على العراق. وممنوع عليها ان تكون لها قوات خارج حدودها. وبعبارة أوضح ان واشنطن تبلغ دمشق ان الملف العراقي يعني العراقيين والاميركيين. وان الملف الفلسطيني يعني الفلسطينيين والاسرائيليين. وان على لبنان العودة من رحلة المقاومة وقاموس المقاومة. وفي بعض بنود لائحة باول تتطابق المطالب الاميركية مع الاسرائيلية. تعرف دمشق ان اميركا تغيرت بعد هجمات 11 ايلول سبتمبر. وسبق لواشنطن نفسها ان نوّهت بموقف دمشق من "الحرب على الارهاب". وتعرف دمشق ان المنطقة تغيرت بعد نجاح ادارة بوش في اطاحة نظام الرئيس صدام حسين. وهي تدرك معنى وجود شارون في اسرائيل والصقور في واشنطن. وتدرك ايضاً الخلل الفاضح في موازين القوى الدولية والاقليمية. تدرك دمشق كل ذلك وتدرك انها مستهدفة دوراً وموقفاً. تدرك كل ذلك. لا مصلحة لها في الاصطدام. ولا رغبة لديها في الاستسلام. تحاول التكيف مع انقاذ الثوابت. واقعية من دون ذعر. وصلابة لا تبطن ميولاً انتحارية. ورهان على الحوار وعلى استكشاف القدرة على الانتظار. تريد استعادة أرضها المحتلة من دون تعريض إرادتها للاحتلال. قوة اعتراض تستحيل عنصر استقرار كلما اتصف الموقف الاميركي بالحد الأدنى الضروري من النزاهة والواقعية.