كلما اجتمع نفر من العرب في ندوة علمية أو لقاء ثقافي وجاءت سيرة اليابان وجدت أن غالبية الحاضرين في مثل تلك الملتقيات يقارنون بين النهضة اليابانية المحققة، والنهضة العربية المرتجاة، بالقول أن اليابان استطاعت أن تدخل العصر الحديث، وتحتفظ في الوقت نفسه بثقافتها الاجتماعية! ويكاد هذا الرأي يشكل غالبية بين المتابعين العرب، ولعله رأي اعتذاري أو تبريري، بأنك تستطيع أن تحافظ بالضبط على موروث اجتماعي، وبناء سياسي تقليدي، وسلوكك عام و خاص لا يتناسب مع العصر، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تلج عصر التحديث والعولمة والإنتاج. ومهما قيل ضد هذه الأفكار، بأن اليابانيين عموماً قد دخلوا عصراً جديداً بسبب تغيير ما اعتادوا عليه من بنى سياسية وسلوك اجتماعي، وبتبني أفكار حديثة، يقابله البعض باستنكار أو استغراب. هذا الرأي يخلط بغير علم بين الشكل الخارجي للثقافة كلمأكل و الملبس وبين الأمر المؤثر في الثقافة كالسلوك السياسي وبناء المؤسسات. وقد جاء ياباني بقلم عربي فصيح ليقول عكس ما يظن البعض، هذا ما سرده نوبواكي نوتوهارا في كتابه الذي ما أن فرغت من قراءته، حتى خلت انه من القراءة الضرورية لأي سياسي عربي، يريد أو يعتقد أن الإصلاح لا يزال ممكناً في فضائنا العربي. شهادة نوبواكي الذي قضى قرابة أربعين عاماً وهو يعيش مع العرب ويلاحظ الثقافة العربية في البوادي و المدن، وقد أجاد العربية كأحد أبنائها، واطلع على الإنتاج الأدبي العربي وترجم منه إلى اليابانية، هي أول شهادة يابانية - حسب علمي - تكتب عن العرب بلغتهم، وحسناً فعلت دار الجمل في ألمانيا بنشر هذا الكتاب ذي القطع المتوسط والذي لا يتجاوز المئة وخمسين صفحة فقط، ولكنها صفحات مليئة بالملاحظات المهمة، جاءت من عين يابانية محبة ولكن ناقدة. أهم ما في الكتاب هو المقارنة بين ما يقوم به العرب، وما بين ما يتوقعه الياباني المعاصر. يلاحظ الكاتب هذا التوتر غير الخفي في المدن العربية المكتظة بالسكان، وهو توتر في الشارع العربي يعتقد الكاتب انه ناتج عن اضطهاد، فالناس تمشي في الشوارع وكأن عيناً تطاردهم، وجوه جامدة وصامتة وطوابير طويلة، حتى في التاكسي يواجه الإنسان الاضطهاد فالسائق يختار الراكب حسب المكان الذي يريد الذهاب إليه، ويرفض أن ينقل الشخص الذي لا يعجبه شكله، أو المكان الذي يقصده، وينتهي الكاتب بالملاحظة أن الناس في المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين، الناس صامتون لا يتحدثون، لكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت الخانق! يكتشف الناقد الياباني أن هذا الجو من التوتر هو بسبب غياب العدالة الاجتماعية، ويضيف أن من حقه بعد كل هذه السنوات مع العرب أن يقول شيئاً لهم. غياب العدالة يعني غياب المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس في علاقتهم ببعضهم، لذلك "يكرر الناس في البلاد العربية أن كل شيء ممكن لأن القوانين السائدة غير مطبقة وغير محترمة". القانون لا يحمي الناس من الظلم لأنه مخترق، ويأتي نوتوهارا على الكثير من الأحداث و الوقائع، فالقمع هو "الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى برهان في البلاد العربية"، ومن مظاهر القمع الذي يستغربه الياباني المعاصر أن "الحاكم" يحكم مدى الحياة في الوقت الذي لا يتجاوز عمر رئيس الوزراء الياباني في الوظيفة بضع سنين، وان الصحف تمنع من بلد إلى بلد، وان الكتب و المجلات تعرض على الرقابة، مثل هذه المظاهر لا يتوقع الياباني أن يراها في حياته المعاصرة. ثم يستطرد بالقول أن "من زار اليابان لا شك يعرف أن هناك سيارات بمكبرات صوت على نواصي الشوارع تهاجم رئيس الوزراء و الحزب الحاكم دون أن يتعرض لها أحد"، ولكن "السلطة و الشخص في البلاد العربية شيء واحد" وفي معظم البلاد العربية يقول الكاتب أن "المعيار الوحيد لكرامة المواطن ووطنيته هو مقدار ولائه للحاكم"، وهذا كله غريب علينا نحن اليابانيين في الوقت الحاضر. وفي تاريخ اليابان الحديث، فإن السيد تاناكا واحد من أقوى الشخصيات التي شغلت منصب رئيس وزراء، ولكن الشرطة اعتقلته من بيته وذهب إلي السجن بالقباب الياباني بعدما اكتشفت الصحافة قضية "لوكهيد". يعترف الكاتب بأن اليابان في وقت ما كانت خاضعة لنوع من القمع، لكن اليابانيين تخلصوا منه وأصبح تاريخاً. يقول "اعتقد أن القمع هو داء عضال في المجتمع العربي لذا فإن أي كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي من دون وعي هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فإنني لا اعتبر حديثه مفيداً وجدياً" نتيجة القمع يحاول الناس أن يوحدوا آراءهم وملابسهم وبيوتهم وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد، ويغيب أيضاً الوعي بالمسؤولية العامة.فالقمع يولد الخوف وينتج الاحترام الكاذب. بسبب غياب العدالة، تغيب المسؤولية العامة، فالحدائق والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل العامة يدمرها الناس اعتقاداً منهم أنهم يدمروا ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم، وكذلك تغيب المسؤولية تجاه أفراد المجتمع "فالسجناء السياسيين ضحّوا من اجل المجتمع، ولكن المجتمع نفسه يضحي بأولئك الرجال الشجعان" الناس في البلاد العربية تتعامل مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية على أسرة السجين أن تواجه أعبائها! يتسائل الياباني باستغراب "افهم أن تضحي السلطة بأفراد متميزين ومفكرين وأدباء وسياسيين وعلماء وفنانين ولكن لماذا يضحي الشعب نفسه بأولئك الأفراد"! العربي، يقول الكاتب، يتناول أفكاره من "خارجه" فيما يستنتج الياباني أفكاره من الوقائع الملموسة التي يحياها كل يوم "في اليابان تضاف حقائق جديدة كل يوم بينما يكتفي العربي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد". الأفكار الجاهزة تخرب فهمنا للواقع. يقارن الكاتب بين اليابان و العرب فيقول ان اليابانيين "واجهوا تجربة صعبة ومريرة، اذ سيطر العسكريون على الإمبراطور والسلطة والشعب وقادوا البلاد إلى حروب... لكننا وعينا خطأنا وقررنا أن نصححه، فأبعدنا العسكر وقررنا أن نبني ما دمره القمع العسكري..."، لقد تعلمنا أن "القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء، ويؤدي إلى انحراف السلطة والدخول في ممارسات خاطئة"، ثم يضيف أن النقد الذاتي "له قيمة كبرى في حياة الشعوب، والشعوب بحاجة الى نقد من الداخل ومن الخارج". ويقول الكاتب انه كثيراً ما يواجَه بالسؤال من أصدقائه العرب: لقد دمرتكم الولاياتالمتحدة بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدنكم، فلماذا لا تكرهون أميركا؟ يجيب بأن "علينا أن نعترف بأخطائنا، لقد استعمرنا شعوباً ودمرنا بلاداً كبيرة، في الصين وكوريا واوكيناوا، علينا أن ننقد أنفسنا ثم نصحح أخطاءنا ونزيل الانحراف "أما المشاعر فإنها مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلاً". يصر نوتوهارا على أن الوعي بالمشاكل هو المدخل الصحيح الى اصلاحها، لذا يعطف على نظام القيم لدي العربي، ويضرب أمثلة كثيرة على خللها من وجهة نظر اليابانيين. فالياباني لا يتوقع أن يذهب الى البنك ليصرف مبلغاً من المال ثم يعطيه الصرّاف اقل مما يستحق ! أو أن يذهب الى متحف فيعرض عليه مسؤول المتحف بيعه بعض القطع الأثرية... ويصف نوتوهارا الكثير من الحوادث في كتابه، بل إنه شاهد مرةً باستغراب راهبة بثيابها الدينية تدفع رشوة! لأنه لا يمكن أن تنهي معاملتها في تلك الدائرة من دونها، فنظام القيم يرى الكاتب أن فيه خللاً كبيراً لا تستقيم معه التنمية المنشودة. لقد حاولت أن أقدم لمسة سريعة لهذا الكتاب الذي يفتح عين من يريد أن يرى، لأنه يقدم قضيتين: الأولى أن اليابان طلّقت كثيراً من قيمها القديمة بشهادة رجل مطلع منها لتدخل عصر التحديث، والثانية أن هناك نظاماً من القيم العربية تستحق المراجعة. أما أن يكون الاكتفاء بفهم الكتاب من خلال التعليق عليه فأنا لا أدعي ذلك، لكني اعتقد ان لدينا جميعاً حاجة الى أن نقرأه بعيون وقلوب مفتوحة. * كاتب كويتي.