حين يتحدث العروبيون عن وحدة التراب العراقي فإنما يتحدثون عن قداسة هذه الحدود التي رسمها الاستعمار البريطاني على أنقاض الامبراطورية العثمانية، أي انهم في الواقع يبدون غارقين في تناقض جوهري مع توجهاتهم وشعاراتهم الرافضة للاستعمار ومخلفاته. لكن، أياً كانت التوجهات العروبية أو غيرها، فإن أمراً واحداً لا بد ان يؤخذ بالحسبان عند التطرق الى الوضع العراقي الراهن. فالعالم كما هو مبني من حولنا في هذا العصر، انما هو مبني على هذا الإجماع الدولي وعلى هذه الحدود المرسومة في المنطقة وسائر بقاع العالم، ومن دونه لن تصل المنطقة ولا العالم المحيط بها الى استقرار ولا الى ازدهار. لا يشك أحد في ان الاحتلال الاميركي سيخرج من العراق عاجلاً أم آجلاً. لكن، قبل ذلك، لا بد من التوصل الى صيغة تجعل الحياة العراقية كريمة وممكنة في بلد متعدد الاثنيات والطوائف. وهذه الصيغة، كي يُقدر لها ان تستمر، يجب ان تشتمل على كوابح دستورية تضمن أولاً وقبل كل شيء حقوق الأقلية قبل ضمان حقوق الأكثرية. وإذا ما أفلح العراق، على اثنياته وطوائفه المختلفة في الوصول الى صيغة من هذا النوع أمكنه ان يشكل نموذجاً لهذه الحياة الكريمة والحرة والعادلة. وقد تكون هذه هي بالضبط الصيغة التي يبحث عنها مجلس الحكم الانتقالي في العراق في هذه الأيام. فلأننا نعرف طبيعة مجتمعاتنا العربية والشرقية ومدى تجذر النهج القبلي والديني والاثني فيها، فهناك حاجة الى صوغ طمأنات دستورية من شأنها ان تكبح أي شكل من أشكال التفرد بالسلطة الذي أفضى ويفضي الى هذه الديكتاتوريات التي طالما جلبت الويلات على شعوب المنطقة. لهذا السبب، يجب ان نقولها صراحة مع أنفسنا: ان ديموقراطية "الفرد الواحد والصوت الواحد" لا تنفع في مجتمعات تسير على هدي مبدأ التضامن القرابي والعصبي، الديني والمذهبي. إذ أن هذا المبدأ يتناقض جوهرياً مع العدل الديموقراطي الذي نتبجح جميعنا بأننا ننشده ونطالب به. من هذا المنطلق، وما دمنا لم نصل بعد إلى مرحلة ما بعد القبلية، ثمة حاجة ماسة إلى وضع هذه الكوابح الدستورية التي تطمئن الجميع من سائر الاثنيات والطوائف، وتجعلها على يقين بأن حقوقها مضمونة ومحفوظة دستورياً لا خوف عليها. وإذا كا أخذنا الوضع العراقي نموذجاً لهذه الصيغة التي ننشدها، فإن الخطوط العريضة للخروج من المأزق قد تكون على النحو التالي: دون التشبث بشعارات بلاغية فارغة عن الشعب الواحد وما إلى ذلك من مصطلحات، علينا أن نعترف بأن ثمة مجموعات سكانية كبرى لها خصوصياتها وروابطها الوثيقة، مثل الشيعة العرب والسنة العرب والأكراد، إضافة إلى سائر الأقليات الدينية والاثنية الأخرى. هذا هو الواقع في العراق، وهذا هو واقعنا جميعاً، ويجب أن نراه كما هو، وأن لا ندسّ رؤوسنا في الرمال متجاهلين وجوده. لكننا، من جهة أخرى، علينا أن نأخذ بمبدأ الانتخابات الديموقراطية لأنها الطريق المثلى، في نهاية المطاف، لخلق مجتمع مدني ينشد التطور. إذاً، والحال هذه، كيف يمكن التقريب بين هذه المتناقضات للوصول إلى برّ الأمان؟ إذا اعترفنا بهذا الواقع القائم على الأرض، فإن الدستور الذي يبحث في صياغته العراقيون يجب أن ينص على التناوب على الرئاسة في العراق بين المجموعات الكبرى الثلاث. ومن المبادئ التي قد ينص عليها دستور من هذا النوع، مثلاً، أن لا تستمر فترة الرئاسة لأكثر من دورتين رئاسيتين، أي لمدة عشر سنين. ومعنى هذا أن الرئيس العراقي يكون شيعياً أو سنياً عربياً أو كردياً كل عشرين سنة، وينتخبه العراقيون جميعاً في انتخابات ديموقراطية. هذا المبدأ الدستوري، إذا ما أجمع عليه العراقيون، فيه ما يكبح امكانية التفرد بالسلطة من قبل طرف من الأطراف، وفيه أيضاً ما يطمئن قطاعات المجتمع العراقي الأخرى بأنها عضو حي وفاعل من أجل العراق، كل العراق بجميع أطيافه. أما إذا رفضت مجموعة ما من هذه المجموعات هذا المبدأ، فإن رفضها يعني شيئاً واحداً ليس إلا، وهو أن نياتها غير طيبة بالمرة في ما يخص سائر المجموعات، ومعنى هذا أيضاً أن العراقيين لن يصلوا ابداً الى برّ الأمان. إن الأخذ بمبدأ التناوب على الرئاسة كل عشر سنين بين المجموعات السكانية العراقية الكبرى، وكل عشرين سنة لكل مجموعة من بين هذه المجموعات، قد يخرج العراق من مأزقه ومن ديكتاتورياته عبر تاريخه الطويل. من شأن مبدأ دستوري من هذا النوع ان يشكل في نهاية المطاف نموذجاً يحتذى في سائر المشرق، الى ان يحين الحين ونصل جميعنا الى مجتمع المواطنة في دولة المواطنين غير القبلية. لكن هذه المرحلة، أي مرحلة ما بعد القبلية بعيدة المنال الآن، بل ربما من الصعب الوصول اليها في المستقبل المنظور بسبب طبيعة مجتمعاتنا. وكفانا مكابرات بشعارات طنانة تذهب أدراج الرياح مع كل هبوب نسمة خفيفة في واقعنا العربي. فإذا نجحت التجربة العراقية فستشكل نبراساً لسورية ولمصر ولسائر المشرق والمغرب. أما اذا فشل العراقيون في ذلك، فسيكون هذا الفشل تعبيراً واضحاً عن فشلنا نحن جميعاً، مجتمعاً وحضارة.