ربما عكست صفقة تبادل الاسرى نقطة الضعف الكبرى لدى إسرائيل، ألا وهي العنصر البشري. وإلا ما معنى ان تسلّم الدولة العبرية نحو 436 اسيراً بين لبناني وعربي في مقابل اربعة اشخاص فقط، وما معنى هذا الاصرار الاسرائيلي على معرفة مصير الطيّار رون آراد لترتقي هذه المسألة إلى مستوى القضيّة القوميّة في اسرائيل، فيما الأسرى والقتلى العرب منسيّون من الانظمة الرسميّة. وفي هذا الاطار، تأتي صفقة "حزب الله" لتحتلّ مركز الصدارة عربياً، وتنبع هذه الصدارة من أن يعقد حزب لبناني مقاوم صفقة مع دولة عدوّة لمعظم العرب، ومن تدخل دولة بحجم المانيا للتوسّط بين هذا الحزب المصنّف "إرهابياً"، ومن ان الدولة النوويّة الوحيدة ربما في الشرق الأوسط، تتفاوض مع حزب محلّي لا يتجاوز مدى أبعد صواريخه ال60 كلم؟ كل هذا يشير الى ان "حزب الله" ربما أعطي وكالة عربية ضمنية لادارة الصراع، بعدما اوكلت المهمّة نفسها سابقاً الى منظمة التحرير الفلسطينيّة، والا لماذا ينتقد الكثير من العرب واللبنانيين "حزب الله" عندما يشن عمليات في مزارع شبعا، ويعمدون في الوقت نفسه إلى تبني الانجازات وإطلاق المدائح وتهنئة الحزب، وهل يمكن اي مُنتقد أن يفصل بين السياسة وبُعد القوّة في الصراعات، كأن تقبل الممارسة السياسية في عملية تبادل الاسرى ويرفض استعمال القوة في وقت آخر؟ اصبح نموذج "حزب الله" هو البديل للصراع مع إسرائيل، وهو نموذج لم يعتمد، كما بقية المقاومات، مبدأ تصفية الحسابات، والارتداد الى الداخل اللبناني لتترجم انتصارها العسكري سياسيّاً، بل عمدت إلى الاستمرار في المقاومة كلما سمحت لها الظروف العملانيّة والاستراتيجيّة بذلك، حتى تحرير ما تبقى من الاراضي المحتلّة. ومن خلال ذلك، ارادت المقاومة إبقاء باب الصراع مفتوحاً، وعمدت إلى بناء منظومة ردعيّة، من دون إزعاج المحيط السكاني الصديق، واستمرّت في عملها السياسي على صعيد التمثيل البرلماني من خلال كتلتها من دون ان تتورّط في الخلافات الضيقة، ووسّعت دائرة اهتماماتها لتشمل البعدين العربي والاسلامي. كما أثبتت أن لا فارق كبيراً بين الزمني والديني. وعلى رغم ان العباءة الدينيّة لهذه المقاومة كانت اسلاميّة، وبالتحديد شيعيّة، الا ان استغلال النجاح فيها لم يكن لمصلحة الشيعة في لبنان فقط، بل صبّ في مصلحة الانتصارات العربيّة، التي لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة. وهي، وبعد إنجاز صفقة تبادل الاسرى، تكون اجبرت إسرائيل على الاعتراف بها مجدداً بعدما اعترفت بها سابقاً من خلال اتفاق نيسان ابريل عام 1996. وهي في ذلك كله أثبتت بعد نظر، اذ بقيت في الاطار الجغرافي المسموح به ضمن القوانين الدوليّة، ولم توسّع بيكارها خارج الاراضي اللبنانيّة، خصوصاً في عالم ما بعد 11 أيلول سبتمبر. ويبقى السؤال: هل ان إنجاز الصفقة بين حزب الله وإسرائيل، يعني في ما يعنيه امكان حدوث فكّ اشتباك، بهدف إعطاء البُعد السياسي دوره، فنرى ترجمة لذلك على الأرض في المدى المنظور بدور للجيش اللبناني، او للامم المتحدة، في الجنوب اللبناني؟ وأين سورية من كل ذلك، وهي التي كانت، ولا تزال، الداعم الأساس لحزب الله. وهنا لا بد من الاشارة الى ان حزب الله ومقاومته مرتبطان عضوياً بما يجري في العراق وإيران وسورية والاراضي المحتلّة، وسيبقى كذلك طالما لم ينوجد حلّ لكل هذه الامور. واذا ما تحقق ذلك كله، فهل انتهى دور "حزب الله"؟ أمور في عهدة المستقبل للإجابة عنها، الا ان المؤكد انه في غياب الحلول الشاملة، يبقى الصراع مفتوحاً، وتبقى عملية تبادل الاسرى جزءاً بسيطاً جدّاً من الأبعاد السياسية والعسكرية لهذا الصراع. * عميد ركن متقاعد، أستاذ محاضر في جامعة سيدة اللويزة - لبنان.