منذ أكثر من عقد وسينما كمال الشيخ من مواليد 1919 غائبة... لكنه كان حاضراً، وربما الأكثر نشاطاً بين السينمائيين المصريين، في اللجان والمهرجانات، شديد الأناقة، شديد الهدوء، متنبه الى كل كلمة وصورة، لطيفاً مع كل انسان يقابله. هل تراه كان قبيل وفاته صباح أمس في القاهرة، وقد تجاوز الثمانين من عمره، يحلم بالعودة الى الوقوف وراء الكاميرا؟ أم انه كان مكتفياً بما حققشه من أفلام جعلته واحداً من الأوائل بين كلاسيكيي السينما العربية، الى جانب صلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين؟ كان من الصعب على أحد ان يجيب، فابتسامة ذاك الذي كان يلقب، من دون رضاه، ب"هتشكوك العرب" كانت دائماً غامضة واعدة، تحمل أكثر من جواب. اليوم إذ رحل كمال الشيخ، بهدوء كما عاش بهدوء، اكتملت دائرة حياته، وصارت أفلامه قيد الدراسة والتأريخ الحقيقي، ذلك ان الفنان، طالما هو حي بعد، يظل يحلم ب"الفيلم الاخير"، الفيلم الذي يظل راغباً في تحقيقه ليقول فيه ما يخيل اليه انه كان يجب عليه ان يقوله في الماضي و... لم يفعل. هكذا يأتي الموت ليضع حداً لذلك الحلم المستحيل. والموت يحرمنا هذه المرة، بعد عام على عاطف سالم وحسين كمال، كبيراً من كبار السينما. كمال الشيخ وصل الى السينما من موقع الهواية والاندماج التام بالشاشة مذ كان في الثانية عشرة من عمره. وهو، حتى سنواته الأخيرة، ظل يذكر الأفلام الأولى التي شاهدها ويعتبرها مدرسته الأساسية، اما المدرسة الأخرى فكانت الحياة نفسها التي استقى منها سينماه حيث صار مخرجاً، لاحقاً، هو الذي كان لا يفتأ يقول انه كان يفضل ان يكون ممثلاً. ولذلك بعث في أوائل الثلاثينات برسالة الى محمد كريم مع صورته طالباً اليه ان يجد له عملاً. يومها رفض محمد كريم بسبب صغر سن كمال الشيخ. فقرر ان يصبح مخرجاً. وبدأ ينفذ قراره ولكن ليس عبر الالتحاق بمدرسة سينمائية، بل عبر جاره، الذي كان وزيراً للحربية، حيدر باشا، طالباً اليه ان يتوسط له. فاتصل هذا بخليل مطران، الشاعر الذي كان رئيساً لدار الأوبرا... وهذا بدوره عرفه على أحمد سالم، مدير استوديو مصر الذي ألحقه بالعمل كمؤلف مونتير مساعد لنيازي مصطفى. وهكذا كانت البداية التي سرعان ما حولت المؤلف الى مخرج بدءاً من العام 1952، لتكون النتيجة خلال العقود الأربعة اللاحقة عشرات الافلام التي يقف بعضها علامة شامخة في تاريخ السينما المصرية من "المنزل رقم 13" الى "الهارب" ومن "حياة أو موت" الى "الطاووس" ومن "ميرامار" الى "الرجل الذي قتله ظلّه" و"الليلة الأخيرة" و"على من نطلق الرصاص". بين أعمال أخرى. في هذه الأفلام جرّب كمال الشيخ كل الانواع من افلام الاثارة والرعب الى الخيال العلمي، ومن السينما الرومانسية الى السينما السياسية. وفي كل المجالات كان مجتهداً، يعمل بصمت، وينتقد بلطف، وإن تبدى انتقاده عنيفاً مثيراً للرقابات كما في "ميرامار" عن رواية نجيب محفوظ، الذي انقذه عبدالناصر نفسه من منع الرقابة. واذا كانت الاثارة غلبت على أسلوبه، لتعطيه لقب "هتشكوك العرب" فإنه كان يفضل ان يُعتبر مجتهداً في سينما الانسان وتمجيد الفرد ودراسته الطبائع من هنا نجاح "الرجل الذي فقد ظله" عن رواية فتحي غانم. وهو ظل فخوراً حتى آخر أيامه، من ناحية أخرى، بأنه لم ينتقد، في سينماه عهداً بعد زواله، بل كان النقد - حتى في قسوته - خلال ازدهار العهد. مع هذا كان كمال الشيخ، الاجتماعي النزعة، السيكولوجي التحليل، يقول ان الانسان، قبل السياسة، هو همه الأول والأخير. وحسبنا اليوم ان نشاهد أعمالاً مثل "حياة أو موت" أو "شروق وغروب" لندرك كم ان هذا الفنان الهادئ الأنيق، كان يخفي خلف قناعه روحاً وثابة وحباً للسينما، من المؤكد انهما لم يضعفا حتى على فراش الموت. × تقام مساء اليوم ليلة عزاء بكمال الشيخ في مسجد الحامدية الشاذلية في المهندسين القاهرة