رسم في مخيلتي صورة لفلسطين من دون أن يكون رساماً، وأطلعني على تاريخها الدامي منذ 1948 الى آخر ما رأته عيناه قبل أن يغمضهما للمرة الأخيرة، من دون أن يكون مؤرخاً. وجعلني أشم رائحة ترابها من غير أن أكون لها زائراً. إنه غسان كنفاني، الكاتب السياسي والروائي والقاص الذي ينقلنا بكتاباته الى عالم آخر، فنعيش في رواياته وكأننا بعض شخوصها، فننسى محيطنا وعالمنا وزمننا الذي نعيشه، الى أن يضع نقطة النهاية لرواياته الحزينة، فنعود من جديد الى واقعنا الأشد إيلاماً. هو الأديب الذي نقل معاناة فلسطينيي الشتات وجعل مداده امتداداً لمسيل دماء الشهداء، فأبى القدر إلا أن يلحقه بهم استشهد في 8 تموز/ يوليو 1972 ليضفي ذلك بهاء على أدبه الذي يصح وصفه بالسهل الممتنع. فهو، من ناحية، سلس، سهل الفهم، ومن ناحية أخرى يحمل بلاغة وقيمة أدبية قلَّ نظيرها. أكتب عن غسان كنفاني من دون مناسبة محددة، مع أن معرفتي بأدبه بدأت من خلال ما كنت أقرأه عنه في الصحف، كل عام في ذكرى استشهاده، الى أن قرأت له "أطفال غسان كنفاني والقنديل الصغير"، في "الكتاب للجميع". فأذهلني أسلوبه الرائع، فاغتنمت معرض الكتاب العربي الذي أقيم في بيروت هذا العام فرصة للحصول على مجموعته الكاملة. وانكببت على قراءتها بشغف حتى انتهيت منها. لم يكن غسان كنفاني الذي أغنى المكتبة العربية بمؤلفاته: "موت سرير رقم 12"، "أرض البرتقال الحزين"، "رجال في الشمس"، "عالم ليس لنا"، "ما تبقى لكم"، "الباب"، "عن الرجال والبنادق"، "أم سعد"، "عائد الى حيفا"...، لم يكن صاحب نظرة سوداوية. ولكن الواقع كان يفرض عليه أن يحمل آلام شعبه وأحزانه، ولا أظنه، فيما لو كان بيننا اليوم، يستطيع أن يكون أقل تشاؤماً. فأرض البرتقال لا تزال حزينة، وباتت تقاسمها مأساتها أرض النخيل. والرجال لا يزالون تحت الشمس تلهبهم بأشعتها المحرقة. بيروت - مهدي محمد علي زلزلي