بعد ثلاثين سنة على رحيله يبدو حضور غسان كنفاني الإبداعي أكثر وضوحاً وشموخاً، وتشع الاسئلة التي طرحها عن فلسطين والوجود والإرادة والمصير في روايته وقصصه ومسرحياته وحتى دراساته السياسية والأدبية. وقد قلّب غسان، على رغم ان رحلته على الأرض كانت شديدة القصر 36 عاماً، اسئلته الملتاعة حول مصير الفلسطينيين، الذين بدوا في عمله نماذج لتعليق المصير البشري وتأجيله الى إشعار آخر، على لهب الكتابة الروائية والقصصية والمسرحية" واستطاع في عدد من أعماله المركزية ان يرى في الفلسطيني نموذجاً لعذاب الانسان مطلق انسان وصراعه الدائم، الذي لا يهدأ، لكي يفهم الاسباب التي تجعله مشدوداً الى مصيره المعلق في التاريخ. ويمكن لقارئ أعمال غسان كنفاني ان يستبدل الشخصيات الفلسطينية في هذه الاعمال بشخصيات من جنسيات وأزمنة اخرى ليكتشف ان الكاتب الفلسطيني حوّل فلسطين الى تعبير رمزي معقد عن تراجيديا العيش الانساني على الأرض. على أرضية هذا الفهم تلتقي روايته "رجال في الشمس" مع مسرحياته "الباب" و"القبعة والنبي" و"جسر الى الأبد" حيث يسفر الفلسطيني عن وجهه الانساني ويعيد طرح الاسئلة الوجودية الأساسية على نفسه: أسئلة الولادة والموت، والرحلة والمصير المعلق على جسر الأبد. واذا كانت روايات غسان قد اهتمت بتقديم إجابة سردية عن الخروج الفلسطيني ومواجهة تهديد الموت، كما في "رجال في الشمس" و"ما تبقى لكم" على اختلاف ما في هاتين الروايتين من تجلية لوضع الفلسطيني وشروط استجابته لتهديد الموت، فإن قصصه التي لم تحظ حتى هذه اللحظة بدراسة تفصيلية تكشف عن فرادتها وتميزها وأفقها الإنساني الرحيب تقرأ تراجيديا العيش الفلسطيني في حياة شخصيات مغفلة الهوية تعيش ضمن الحدود الدنيا لشروط الهوية. إنها تعيش على حواف التاريخ وفي قلب المغامرة الوجودية المعقدة، وتمثل في الوقت نفسه كينونة رمزية، مثقلة بالمعنى، لانسحاق الانسان بشرط التاريخ. ولا شك في ان غسان كنفاني كان يكتب قصصه، بدءاً من "كعك على الرصيف" وصولاً الى آخر قصة لم يتح له ان يكملها، وفي ذهنه تجربته الفلسطينية المريرة اللاهبة. ولم يكن راغباً في كتابة قصص تغيب عنها فلسطين لتحضر في صورها المطلقة المجردة. كان غسان يكنّي عن فلسطين في قصصه، ويشير اليها مداورة وهو يكتب "عالم ليس لنا" أو "أرض البرتقال الحزين"، واضعاً فلسطينه في قلب الممارسة البشرية للعيش، ناظراً اليها في حضورها الأقوى وتمثيلها المعقد للانسان المعذب المرتحل الباحث عن تحقيق مصيره والذاهب ليجابه حياته أو موته. أدرك غسان كنفاني، مثله مثل محمود درويش، ان الحكاية الفلسطينية هي من بين الحكايات الكبرى في التاريخ والتراجيديات المعقدة التي تصلح ان نفسر على خلفيتها معنى صراع البشر على الأرض والتاريخ، فكتب هذه الحكاية بصورة تضعها في سدة هذه الحكايات الكبرى. ومن هنا تبدو روايته، التي تهز قارئها من الداخل، "رجل في الشمس" بمثابة جدل مركب للأسئلة الفلسطينية والأسئلة الوجودية التراجيدية، ذات الاعماق الاغريقية، التي تتعلق بعطالة الفعل البشري وسخرية القدر في اللحظات المصيرية المعقدة. ان غسان يكتب واحداً من أعماله الرئيسية الأساسية وهو يرى حركة التحرر الوطني الفلسطينية وقد بدأت تتراءى في الأفق، ولذلك يسأل أبو الخيزران: "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ "لكن غسان يبني عمله الروائي بطريقة تضع هذا السؤال المدوي، الذي يحمل نبرة اتهام قصوى للذات والآخرين، في تقاطع مع ثقل المصير وضغط المأساة وحضورها القوي الذي يلغي مفاعيل السؤال الذي سأله أبو الخيزران. يحول غسان كنفاني رواياته وقصصه ومسرحياته الى أمثولات Allegories، الى حكايات رمزية قادرة على اضاءة نفسها فيما هي قادرة على اضاءة حكايات الآخرين. ووبهذا المعنى فإن "ما تبقى لكم" ليست رواية عن مصير الفلسطيني، ورحلته التي قرر فيها ان يأخذ مصيره بيده ويجابه عدوه، بل هي رواية تحدي الانسان للشروط المذلة المفروضة عليه. ان غسان يوضح، من خلال الشخصيات التي يرسمها والشروط التي يغمس فيها هذه الشخصيات، ان خلاص الانسان ينبع من داخله، من قدرته على المواجهة واتخاذ قراره بنفسه. وهو لكي يضع قارئه في مواجهة هذه المحصلة الفلسفية - الوجودية لبحثه الابداعي يقيم بناء سردياً مركباً يوحي بأن القدر التراجيدي الضاغط يلغي مشيئة الانسان. تقول أعمال غسان، في الظاهر لا على الحقيقة: لا مهرب من القدر. لكنها، وهي تكثف التعبير عن المصير الذي تلوح كارثيته في الأفق، تشدد على ضرورة ان يأخذ الانسان مصيره بيديه. وهذا هو معنى سؤال أبي الخيزران الشهير الذي وجد جوابه في الصفحات الاخيرة من رواية غسان التالية "ما تبقى لكم" التي يدل تركيبها السردي المعقد، برمز الساعة وجعل الأرض من بين الشخصيات الفعلية في الرواية، على رغبة غسان في كتابة أعمال روائية يطلع بعضها من قلب بعض، كما يدل على مواصلته وضع التجربة الفلسطينية في أفقها الانساني الواسع. إذا نظرنا الى اعمال غسان كنفاني الروائية الاخرى: "أم سعد" و"عائد الى حيفا" والروايات غير المكتملة مثل "الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان". فنجد ان الروائي الفلسطيني الكبير الراحل يواصل تحت ضغط الشرط التاريخي بحث سؤال الوجود الفلسطيني في ضوء الشروط الابداعية نفسها: وضع فلسطين تحت مجهر الوجود الانساني المعقد، وعدم الانزلاق الى التعبير المبسط الشعاري عن قضيتها الكبرى التي تلامس وجدان البشر جميعاً. وعلى رغم ان البعض قد يقول ان "أم سعد"، من بين أعمال غسان الروائية، قد اضطرت الى تبسيط قولها والاقتراب من لغة الشعار والبطولة، الا ان قراءة معمقة لهذا العمل الروائي غير المركب تجعلنا نرى العمق الانساني لهذه الحكاية الفلسطينية، إن أم سعد، الرواية والشخصية، ذات شطوح رمزية في وجه من وجوهها" وهذا ما ينقذها من الوقوع في وهدة الشعار والانسياق وراء نبرة البطولة الجوفاء التي أوقعت كثيراً مما كتب من أدب فلسطيني في ستينات القرن الماضي وسبعيناته في الضحالة والضعف الاسلوبي. واذا كانت "أم سعد" تبدو في الظاهر عملاً روائياً بسيطاً غير معقد فإن "عائد الى حيفا" هي بحث عميق في معنى الهوية والمصير والانتماء، وأثر شروط العيش اليومي في تشكيل القناعات وقرارات البشر في ان يكونوا أو لا يكونوا. تقول "عائد الى حيفا": ليس الدم هو الرابط المصيري بين الفلسطينيين بل الفعل والانتماء الى الاسئلة المصيرية نفسها. ان هذه الرواية الساحرة تستشرف أسئلة التحرر الوطني الفلسطيني وتعيد تركيب الهوية الفلسطينية من خلال المواجهة التي تقوم بين الأب الفلسطيني والإبن الذي أصبح يهودياً بالتربية والتبني. هكذا يواجه الفلسطيني صورته المنقسمة، بل المشروخة، في مرآة الصراع المعقدة، ويقرر في النهاية ان يقاوم من دون المضي في مفاوضة عقيمة مع الآخر الذي هو امتداد له، عبر رابطة الدم، وانفصال عنه في قراره المصيري بالاصطفاف مع العدو الذي رباه. لا أظن، في سياق مراجعة ما أنجزه غسان كنفاني على الصعيد الابداعي، ان هناك روائياً فلسطينياً آخر استطاع ان يغوص في اعمال التجربة الفلسطينية ويكتب جوهر هذه التجربة، جاعلاً مغامرة الفلسطينيين تتقاطع مع مصائر البشر جميعاً، معطياً الحكاية الفلسطينية ملامح تاريخية مركبة وامتدادات فلسفية تدور حول أسئلة المصير والارادة وقدرة الانسان على التدخل في اللحظة الحاسمة لتقرير مصيره الفردي والعام. ومن هنا أهمية غسان المزدوجة: على الصعيد الابداعي اذ استطاع ان يضع الرواية والقصة الفلسطينيتين في أفق الكتابة السردية العربية المبدعة، وعلى صعيد التعبير عن الحكاية الفلسطينية التي اصبحت في كتابته حكاية البشر لا حكاية الفلسطينيين وحدهم عندما بادل الشخصيات الفلسطينية بشخصيات غير فلسطينية في قصصه ومسرحياته، وفعل العكس في رواياته، لتلتحم مصائر الفلسطينيين بمصائر غيرهم من البشر. هكذا غدا ابداع غسان كنفاني ذا أفق كوني يمكن للقراء في لغات مختلفة ان يتواصلوا معه. لكننا قصرنا في ايصال كتابات غسان كنفاني الروائية والقصصية والمسرحية الى القراء في العالم، وأهملنا ترجمتها والكتابة حولها في لغات العالم الاساسية، وفقدنا فرصة خدمة القضية الفلسطينية، والتعريف بأعماقها، من خلال ادب غسان كنفاني الذي يهدف الى وضع العالم في صورة التراجيديا الفلسطينية. فهل نعيد النظر في هذا التقصير في ذكرى غيابه الثلاثين؟