قبل يومين، الثلثاء، أحيت اوروبا ذكرى محرقة اليهود على أيدي الألمان النازيين الهولوكوست بحديث متداخل عن المحرقة ودروسها الانسانية القاسية، وعن اسرائيل ومأزقها الشاروني الراهن ببلوغها "منطق الابادة" نفسه ولو بتبريرات مختلفة. للذكرى رهبتها الطاغية، وللواقع صرخته الجارحة. ولعل اقحام اسرائيل في الذكرى يعني في الوجدان اليهودي ان الدولة العبرية كانت ولا تزال تعويضاً دولياً عن المحرقة، وبالتالي فإن مطالبة الآخرين ولا سيما الاوروبيين باستمرار الشعور بالذنب لا بد ان تعني ان التكفير عن هذا الذنب يكون بدعم مطلق لاسرائيل مهما بالغت في الوحشية. على مدى ستة عقود جهد اليهود واجتهدوا لإبقاء المحرقة ماثلة في الاذهان وامام العيون، لا مجرد ذكرى ولا صفحة من التاريخ يمكن طيها وانما حدث محكوم بالتداول اليوم لاستخلاص العبرة واستظهارها الى ما لا نهاية. وخلاصة العبرة هي عدم تكرار ما حصل ابداً. الاوروبيون تعلّموا الدرس، بل يعلّمونه في مدارسهم، حتى بات جزءاً من "المناهج" التربوية. لم يترك اليهود تفصيلاً الا استعادوه، ولا واقعة الا تعمقوا في خلفياتها. جعلوا من "الهولوكوست" محطة فاصلة في الحضارة الغربية الحديثة، صنعوا منها مؤسسة بل مؤسسات، وأحاطوها بنظام حماية محكم يستند الى قوانين الدول، بل ادخلوها في صلب فلسفة القوانين هذه، حتى اصبحت شرعة خاصة واستثنائية لحقوق الانسان تتخطى الشرعة العالمية المعروفة التي تتعامل الاممالمتحدة بمعاييرها مع دول العالم وشعوبها كافة. طبعاً، اثارت المحرقة جدلاً لا يزال قائماً، وقد ساهمت هذه "الاستثنائية" في تأجيجه، لأنها استخدمت في اسقاطات منفّرة ومستفزّة، ولأنها حرّفت فباتت تعني "استثنائية" اليهود ازاء الآخرين، ثم انزلقت لتعني الآن "استثنائية" اسرائيل، ثم امضت في المبالغة لتعني "استثنائية" شارون، الى حد ان اي صاحب رأي يمكن ان يوجه أقذع الانتقادات للرئيس الاميركي من دون ان يتهم ب"معاداة السامية"، أما إذا لفت الى جرائم شارون فإنه يعرض نفسه لمؤاخذات قانونية. وفي سياق ذكرى المحرقة وجد بعض الكتاب ان الفرصة مناسبة لتصفية حسابات مع المشككين ب"الهولوكوست"، من دون ان يعترفوا بالاسباب التي تدفع هؤلاء الى "المراجعة" بحثاً عن الحقيقة. وبلغ الأمر حد استفظافي استخدام صفة "النازية" لما ترتكبه اسرائيل في فلسطين من "جرائم مماثلة". وبات هذا التوصيف تهمة جديدة ل"المراجعين"، اذ ان نظام "الاستثنائية" الذي يحمي الهولوكوست يحرّم حتى شبهة "النازية" في أي ظاهرة لا إنسانية مطابقة. لذلك يقول احد هؤلاء الكتّاب ان توصيف أي يهودي شارون، هنا، مثلاً بأنه "نازي" هو "اهانة له في يهوديته". وينسى هذا الكاتب انه وشارون وبوش وغيرهم يتفوهون بسهولة، يومياً، ب"الارهاب العربي" و"الارهاب الاسلامي"، وينسى ايضاً او بالاحرى لا يهتم ان توني بلير تحدث عن "الفيروس الاسلامي"، ولا يخشون ان يتسبّب هذا التوصيف العام بإهانة للعربي في انتمائه وللمسلم في ديانته. من الواضح ان اليهود يفضلون ان تبقى قضية المحرقة كما نشأت بينهم وبين الاوروبيين، والغربيين عموماً، على رغم انها قضية انسانية بمعزل عن "الاستثنائية" التي اضفيت عليها ليسهل استخدامها في الابتزاز واستثمار الشعور بالذنب. في المقابل لا يهتم الاسرائيليون بمشاركة العرب والمسلمين في هذا الواجب الانساني، بل فعلوا كل ما يمكن للحؤول دون تلك المشاركة سواء بعشرات المجازر او بتدمير المباني وسرقة الاراضي او باضطهاد الشعب الفلسطيني. كل ما يمكن ان تعنيه "الهولوكوست" انسانياً واخلاقياً ابتذلته آلة الحرب الاسرائيلية وداسته وحوّلته الى سياسة ثأر دائم. ولذلك فإن آلية تسليع "الهولوكوست" لا تفيد في الشرق الاوسط، لأن اي "بزنس" لا يستقيم الا اذا سار على الاتجاهين، فطالما ان الاسرائيلي لا يعترف بما اقترفه من جرائم فإنه لا يستطيع مطالبة العرب والمسلمين بأن تكون المحرقة جزءاً من وجدانهم. كان لافتاً في يوم ذكرى المحرقة ان يستذكر الكتاب اليهود تحديداً مجازر البوسنة ورواندا وكردستان. انهم محقون في استنكار ما ارتكب في حق هذه الشعوب الثلاثة، لكن اغفالهم فلسطين يعزز الشكوك في كونهم يحترمون فعلاً معنى الذكرى.