كان كل شيء عادياً في جنوبلبنان بعد ظهر السبت في السابع من تشرين الأول اكتوبر العام 2000. فالجنود الاسرائيليون اطمأنوا الى وضعهم بعد أقل من خمسة أشهر على انسحاب الاحتلال الاسرائيلي من جنوبلبنان، في مواقعهم الجديدة خلف الخط الأزرق. إذ اعتادوا رؤية رجال "المقاومة الاسلامية" الجناح العسكري ل"حزب الله" في المقابل، وظنوا ان هؤلاء لن يجرأوا على تنفيذ أي عملية، خصوصاً ان المقاومة التزمت الهدوء على طول الحدود التي اقرتها الدولة اللبنانية الى حدود مزارع شبعا المحتلة. علم الاسرائيليون واستخباراتهم ان الحزب يخطط لخطف جندي اسرائيلي في مزارع شبعا، فاتخذوا احتياطات منعوا بموجبها الجنود من التحرك منفردين وجعلوا كل دورية مؤلفة من ثلاثة أشخاص، وأجروا مناورة في المزارع لافشال اي عملية من هذا النوع. في ذاك السبت، يوم العطلة اليهودية، كان رجال المقاومة المولجون المراقبة في ثماني نقاط، في مواقعهم كالمعتاد على طول الشريط الشائك من محور بركة سندانة شرقاً حتى محور المجيدية غرباً. وفي المقابل كان الجنود الاسرائيليون في مواقعهم. وبين فترة وأخرى تسير دورية في محاذاة الشريط. وعند الواحدة بعد الظهر، تقدمت مجموعة من "المقاومة الاسلامية" وتمكنت من الوصول الى مسافة تبعد نحو 200 متر عن مدخل الموقع الاسرائيلي في تلة رويسة السماقة جنوب كفرشوبا. انقسمت المجموعة الى اثنتين، الاولى نصبت كميناً عند مدخل الموقع، والثانية اقتحمته. وبعد ربع ساعة وصلت دورية من اربع جنود الى نقطة الكمين، ودار اشتباك استخدمت خلاله الاسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية. وفي اللحظة ذاتها كانت مجموعة اخرى تصل الى الساتر الترابي لموقع رويسة السماقة، وتطلق نيران القذائف الصاروخية في اتجاه دشمه وآلياته، وتزامن ذلك مع قيام "المقاومة الاسلامية" بقصف مدفعي وصاروخي، وفي شكل مركز ودقيق، لكل المواقع الاسرائيلية في محور مزارع شبعا وتلال كفرشوبا نحو ساعة، ما شكل غطاء لعناصر مجموعة الكمين الذين اسروا ثلاثة جنود فيما فر الرابع وعادوا بهم سيراً مسافة استمرت اكثر من عشر دقائق وصولاً الى محور بركة بعثائيل، حيث كانت سيارات عدة مختبئة في المنطقة في انتظارهم. استقل المقاومون واسراهم السيارات وانطلقوا بها في اتجاه المناطق المحررة. الا ان احداها اصطدمت بعائق، ما أدى الى تعطلها فتركوها خلف الشريط الشائك ليستقلوا سيارات أخرى في الأراضي المحررة حيث تولى عناصر آخرون تأمين الطريق والمواكبة في وقت انطلقت سيارات متشابهة في وجهات مختلفة للتضليل، واستمرت العملية نحو نصف ساعة، خرجت خلالها المجموعة من منطقة العرقوب مع الأسرى الثلاثة وهم: السرجنت ميجور بني افراهام، والسرجنت ميجور عمر سويد، والسرجنت ادي افيتان. والثلاثة ينتمون الى وحدة هندسية. وأعلنت المقاومة في غير بيان ان "مجموعة الشهيد محمد الدرة من المقاومة الاسلامية نصبت كميناً محكماً لدورية اسرائيلية عند بركة شبعا الواقعة ضمن أراضي شبعا اللبنانيةالمحتلة، ولدى وصول الدورية الى نقطة المكمن ... انقض عليها المجاهدون بأسلحتهم ... وتمكنوا من أسر ثلاثة من جنود الدورية وأجهزوا على من تبقى من افرادها. أما الرواية الاسرائيلية فكانت على النحو الآتي: "أثناء تبادل القصف المدفعي توجهت دورية لرؤية ما يحدث. وفي هذا الوقت اقتربت سيارة مدنية فيها مقاتلون من "حزب الله" من السياج الحدودي. وعلى ما يبدو أطلقت قذيفة مضادة للدروع ونيران أسلحة خفيفة على آلية الدورية الاسرائيلية. وفي رواية أخرى أصيبت الآلية بقذيفة هاون، فشلّت الدورية المشكّلة من ثلاثة جنود بحسب أحد المصادر ومن أربعة، أفلح أحد جنودها بالفرار بحسب رواية أخرى، وقامت مجموعة حزب الله بأسر الثلاثة، وانطلقت بهم في السيارة المدنية بسرعة الى عمق الأراضي اللبنانية". وأضافت ان "القوات الاسرائيلية أدركت لاحقاً ان الجنود أسروا، غير ان هذا الإدراك جاء متأخراً. والجهد الذي بذلته القوات الاسرائيلية طوال ساعات لشل حركة السيارات في منطقة شبعا باء بالفشل، والسبب ان الإدراك الاسرائيلي لحقيقة ما جرى تم وفي شكل متأخر". ولاحقاً قال نصرالله ان "الجنود الآن موجودون في مكان لا يمكن ان تصل اليه يد الاسرائيليين، اي عليهم ألا يتعبوا انفسهم لا عبر المجلس الوزاري ولا عبر غيره". وهذا المكان الذي تحدث عنه نصرالله عصى على الاسرائيليين وعملائهم واستخباراتهم ثلاث سنوات، وسط تكتم على مصير الجنود استمر حتى هذه اللحظة. وهذا ما دفع بالاسرائيليين لاحقاً الى اعلان وفاة الجنود، خصوصاً انهم عثروا على دماء في سيارتهم والسيارة التي نقلوا فيها في مكان العملية. وبعد العملية تحولت بيروت أياماً الى مركز استقطاب سياسي وديبلوماسي على أعلى المستويات السياسية والديبلوماسية الدولية والاقليمية، وسط تهديد ووعيد اسرائيليين، خصوصاً ان رئيس الحكومة الاسرائيلية آنذاك ايهود باراك أعطى اوامره لسلاح الجو الاسرائيلي بالتهيؤ لضربة عسكرية جوية تشمل لبنان وسورية على أن يتواصل القصف الى ان يسترد الجنود. لكن اتصالات جرت بين عدد من الدول العربية وخصوصاً الأردن والولايات المتحدة من جهة وبين اسرائيل أدت الى عودته عن هذا القرار لافساح المجال أمام الوساطات. كذلك اتهمت اسرائيل عناصر القوات الدولية العاملة في جنوبلبنان بالتواطؤ مع الحزب. لكن تقريراً رفع الى مجلس الأمن أثبت عدم صحة ذلك ولم "يثبت أي تآمر لتسهيل عملية الخطف". وتمسك نصرالله الذي تسلم الملف شخصياً بموقفه وطلب ثمناً في مقابل أي معلومة واطلاق كل الاسرى اللبنانيين وعدد كبير من الاسرى العرب واعادة جثث الشهداء وتسليم لبنان خرائط الالغام التي خلفها الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب. لم يمضِ اسبوع على حادثة خطف الجنود، ولم يهدأ لبنان من الاتصالات الدولية، حتى وقف نصرالله في 15 من الشهر نفسه ليعلن في افتتاح "المؤتمر العربي القومي والاسلامي" في بيروت أسر العقيد الاسرائيلي الحنان تننباوم، من دون أن يكشف فوراً عن هويته، و"سنعلن لاحقاً التفاصيل المناسبة في الوقت المناسب"، موضحاً انه "يريد ان يظل الاسرائيليون في حيرة"، داعياً الاسرائيليين الى الكشف عن هويته. وبعد نحو 10 ساعات اعترفت اسرائيل بالعملية. وأعلن بيان لوزارة الدفاع "اختفاء اسرائيلي يدعى الحنان تننباوم 54 عاماً في لوزان في سويسرا قبل عشرة ايام، وانه يحمل رتبة عقيد احتياط في سلاح الجو ويعمل مع شركة استشارات على علاقة بشركتي "تاديران" و"رافاييل" وهما شركتان كبيرتان للتجهيزات والالكترونيات والتسلح. وأضاف "انه من عناصر الاحتياط في الجيش وخطف في عملية ارهابية في الخارج واعتبر مفقوداً وانه سافر الى الخارج بمبادرة منه ولأسباب شخصية". وأعلن نصرالله تفاصيل عن العملية، موضحاً انها بدأت قبل مدة، اذ باشرت جهة أجنبية استخباراتية عبر وسيط الاتصال بأحد كوادر حزب الله المقربين من شخصية سياسية في الحزب، بغطاء اجنبي من اجل تجنيد لبنانيين في عمل استخباراتي ليتبين لاحقاً ان هذه الجهة اسرائيلية، وتتستر بعنوان اجنبي. وعلى اثر ذلك بادر هذا الاخ الى تبليغ جهاز امن المقاومة بما حصل معه وعكف الجهاز الامني للمقاومة على رسم خطة للتعاطي مع الموضوع لكشف الجهة والعمل على استدراجها. وبعد فترة من المتابعة باتت لديه شكوك حول حقيقة تلك الجهة، وبسبب طبيعة الاسئلة والمعلومات المطلوبة، ساد الاعتقاد بأنها اسرائيلية، ولتوثيق العلاقة بين الاخ والوسيط مع تلك الجهة زودت الجهة الاستخباراتية الاجنبية معلومات مهمة ولكنها لا تضر المقاومة، وسعت تلك الجهة للقاء الاخ المسؤول بقطع العلاقة مع الوسيط ما لم تكن علاقته مباشرة مع الجهة الاجنبية وتم تزويدها معلومات امنية اضافية ومهمة، وبعد محاولات عدة وبين اخذ ورد تم اقناع مندوب الجهة الاجنبية الاستخباراتية بالمجيء الى لبنان، على اساس انه ليس اسرائيلياً بل ينتمي الى بلد ما، للقاء المسؤول في "حزب الله" مباشرة، وجاء الى لبنان قادماً من بروكسيل ودخل الى لبنان في شكل قانوني وهو يحمل جواز سفر اجنبياً تبين لاحقاً انه مزور. وبعد سلسلة اجراءات تأكد ما كنا مقتنعين به من انه ضابط برتبة عقيد في الجيش الاسرائيلي يعمل مع الموساد فتم اسره واحتجازه، وهو كان سابقاً قائداً للواء مدفعية ميدان، شارك في اجتياح اسرائيل للبنان في سنة 1982 وفي قصف مدينة بيروت وضواحيها ويقيم مع عائلته في تل ابيب وليس في اوروبا. لكن الجانب الاسرائيلي تكتم على الكشف عن أي معلومات عن طريقة اسر تننباوم وحتى بقرار من المحكمة العليا التي وافقت بعد أكثر من سنتين على نشر الرواية الاسرائيلية، التي قالت "ان الخطف تم بمساعدة قيس عبيد، وهو مواطن عربي من الطيبة، وبالتعاون مع اللبناني كايد برو. وان تننباوم وصل مطلع تشرين الأول الى بروكسيل بعدما اقنعه عبيد بذلك بحجة تنظيم لقاء مع رجال أعمال. ومن هناك سافر الى ابو ظبي، وان الاستخبارات الايرانية نقلته من هناك الى لبنان بالبريد الديبلوماسي بواسطة طائرة خاصة، ومن ثم سلّم الى حزب الله". وكان الوسيط الألماني ارنست اورلاو بين إسرائيل وحزب الله زار الأسير تننباوم، وأبلغ إسرائيل أنه على قيد الحياة وفي صحة جيدة، علماً انه يعاني سرطان الجلد. ويبدو ان الدولة الاسرائيلية وأجهزتها الأمنية والقضائية ستخضع تننباوم للتحقيق في ما نسب اليه من تجارة المخدرات والاعمال غير المشروعة. لكن نصرالله نفى هذه الرواية قائلاً انها غير صحيحة اطلاقاً وكذلك نفى وجود أي دور ايراني او سوري في العملية.