Valژry Giscard D'estaing Prژsente la Constitution pour L'Europe. فاليري جيسكار ديستان يقدم دستور أوروبا. Albin Michel, Paris. 2003. 400 Pages. انطرحت فكرة دستور أوروبي منذ أن تحول الاتحاد الأوروبي من مجرد اتحاد نقدي الى مشروع لاتحاد سياسي يشمل الاقتصاد والسياسة الخارجية والدفاع المشترك والعدالة والأمن العابر للحدود، وتنتمي الى عضويته لا ست دول فقط، ولا حتى اثنتا عشرة دولة فقط، بل خمس وعشرون دولة، وربما أكثر في السنوات القادمة. وقد اصطدمت فكرة دستور أوروبي في بادئ الأمر بمعارضة قوية من جانب بريطانيا وكذلك من جانب بعض دول أوروبا الشمالية التي لا تعرف تقليد الدستور المكتوب. لكن إزاء الفشل المتكرر لجميع محاولات اصلاح المؤسسات الأوروبية التي ما عادت تتلاءم مع مستوى تطور الاتحاد الأوروبي وتوسّعه، فرضت فكرة دستور ناظم لعمل هذه المؤسسات نفسها كتحصيل حاصل. وقد أخذت المبادرة اليها بلجيكا في أثناء فترة رئاستها للاتحاد في خريف 2001. فبموجب "اعلان لايكن" وهي بلدة قريبة من بروكسيل الصادر في 15 كانون الأول ديسمبر 2001 تم تشكيل لجنة برئاسة فاليري جيسكار ديستان، رئيس جمهورية فرنسا السابق، لوضع "نص دستوري" يحدد المسار المستقبلي للاتحاد الأوروبي. هذه اللجنة التي عقدت 52 جلسة عمل واستمعت الى 1812 مداخلة ونشرت 23546 وثيقة مترجمة الى 11 لغة، استطاعت بعد 17 شهراً من العمل المتواصل ان تضع مشروع دستور لأوروبا رفعته الى رئيس المجلس الأوروبي في 18 تموز يوليو 2003 لتجري مناقشته واعتماده مع كل التعديلات المحتملة في بحر العام 2004. وكما يلاحظ ديستان في تقديمه لمشروع هذا الدستور، كانت نقطة الانطلاق الأولى في صياغته واقع التعدد اللغوي والقومي والديني في القارة الأوروبية والرغبة في توحيد نفسها في آن معاً. فخلافاً لواقع الحال في النموذج الاتحادي الاميركي حيث تلعب الوحدة اللغوية دور البوتقة، وخلافاً ايضاً للنموذج الصيني حيث تشكل قومية "الهان" أكثر من 80 في المئة من جملة سكان الصين، فإن أوروبا لا تملك من خيار آخر سوى ان تنظّم وحدتها حول تنوعها، لا ضد تنوعها. وهذا التنوع هو في المقام الأول لغوي: فدول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرون تتكلم باحدى وعشرين لغة. تضاف الى ذلك تنوعات دينية وثقافية ومستويات متباينة في التطور الاقتصادي. ولهذا فإن الشعار الوحيد الذي يمكن أن يعبر عن روح دستور أوروبا هو "الوحدة في التنوع". وهذا ما نصت عليه بوضوح مقدمة الدستور في الوقت نفسه الذي أكدت فيه على ان الوحدة التي تجمع أوروبا في تنوعها هي في المقام الأول وحدة القيم الحضارية، وفي مقدمتها المساواة بين البشر والحرية والديموقراطية واحترام العقل والانفتاح على المعرفة والايمان بإمكان التقدم وتحسين الانسان لمصيره. وبعد التنوع كان الإشكال الثاني الذي واجهه صائغو مشروع الدستور الأوروبي وهو الاشكال الديموقراطي. فلو طبقت القاعدة الذهبية للديموقراطية: "صوت واحد للمواطن الواحد" تطبيقاً حسابياً صارماً لوقع خلل خطير في البنية التمثيلية للبرلمان الأوروبي. ففي أوروبا "المتحدة في تنوعها" ست دول كبرى يتراوح تعداد سكانها ما بين الأربعين مليون نسمة اسبانيا وبولندا والستين مليون نسمة فرنساوبريطانيا وايطاليا، بل الثمانين مليون نسمة المانيا. وهناك بالمقابل ثماني دول يتراوح تعداد سكانها ما بين ثمانية ملايين وستة عشر مليون نسمة هولندا واليونان والبرتغال وبلجيكا وتشيخيا والمجر والسويد والنمسا. وهناك أخيراً احدى عشرة دولة يقل تعداد سكانها عن ستة ملايين نسمة سلوفاكياوالدانمارك وفنلندا وايرلندا وليتوانيا وسلوفينيا واستونيا وقد يتدنى الى أقل من مليون قبرص واللوكسمبورغ ومالطا. والحال انه قد تقرر أن يكون للبلد الواحد خمسة نواب في البرلمان الأوروبي كحد أدنى، على أن يتصاعد هذا العدد تدريجاً تبعاً لعدد سكان كل بلد على حدة، بمعدل نائب لكل مئة ألف من السكان. وبعملية حسابية بسيطة تبين ان أكبر أربعة بلدان في أوروبا، وهي المانياوفرنساوبريطانيا وايطاليا، ستكون لها هيمنة مطلقة ودائمة على البرلمان الأوروبي لأن مجموع سكانها يؤلف 255 مليون نسمة، في حين أن باقي البلدان الأوروبية الواحد والعشرين لن يزيد مجموع سكانها على 196 مليون نسمة. ولو طبقت قاعدة نائب واحد لكل مئة ألف من السكان تطبيقاً حرفياً لبلغ عدد نواب البلدان الأربعة الكبرى 2550 نائباً، في حين أن عدد نواب باقي البلدان الواحد والعشرين لن يتعدى 1960 نائباً. وعدا هذا الخلل في التوازن "الديموقراطي" بين أقلية أربعة بلدان لها الغالبية المطلقة في البرلمان وأكثرية واحد وعشرين بلداً محكوم عليها بوضعية الاقلية الدائمة، فإن ضخامة مثل ذلك العدد من النواب أكثر من 4500 نائب ستشل تماماً آلية القرار. على هذا النحو أقر مبدأ التمثيل النسبي التناقصي. فكلما كان الحجم السكاني للبلد المعني أكبر كانت حصته التمثيلية في البرلمان الأوروبي أنقص. وعلى هذا النحو تقرر ألا يكون لألمانيا بسكانها البالغ تعدادهم 82 مليون نسمة سوى 99 نائباً، أي بمعدل نائب واحد لكل 800 ألف من السكان. والأمر بالمثل بالنسبة الى فرنساوبريطانيا وايطاليا التي تقرر ألا تزيد حصة تمثيل كل منها في البرلمان على 78 نائباً، مع أن حجمها السكاني يؤهلها لأن يكون لكل منها 600 نائب. وبالمقابل فإن البلدان المتوسطة الحجم مثل بلجيكا وتشيخيا واليونان التي يناهز تعداد كل منها العشرة ملايين نسمة، سيحظى كل منها ب24 مقعداً في البرلمان الأوروبي، أي بمعدل نائب واحد لكل أربعمئة ألف من السكان. أما الدول الصغيرة الحجم مثل الدانماركوسلوفاكيا وفنلندا التي يناهز تعداد كل منها الخمسة ملايين نسمة، فسيحظى كل منها ب14 مقعداً، أي بمعدل نائب واحد لكل ثلاثمئة وخمسين ألفاً من السكان. أما الدول الصغيرة جداً مثل ليتوانيا وسلوفينيا واستونيا، فسيتراوح تعداد مقاعدها ما بين 9 و6 على أساس نائب واحد لكل ثلاثمئة ألف من السكان. وتأتي في آخر القائمة البلدان اللامتناهية الصغر التي يقل تعداد سكانها عن المليون نسمة مثل مالطا واللوكسمبورغ، فلن تحظى بأقل من 5 و6 مقاعد على التوالي، بمعدل نائب واحد لكل ثمانين ألفاً من السكان. وبالاجمال، سيكون مجموع نواب البرلمان الأوروبي 733 نائباً عن 452 مليون نسمة، أي بمعدل نائب واحد لكل 620 ألفاً من السكان. أما الاشكال الثالث والأخير الذي واجهه صائغو مشروع الدستور الأوروبي فهو اشكال الهوية الدينية لأوروبا. فالدين، ممثلاً بالمسيحية، لعب بكل تأكيد دوراً من الطراز الأول في التكوين التاريخي للقارة. فعلى امتداد حقبة العصر الوسيط اللاتيني كانت هوية الشعوب الأوروبية دينية قبل أن تكون قومية. وما سمي في وقت لاحق بعصر النهضة الأوروبي اقترن بحركة مزدوجة نحو الاصلاح الديني البروتستانتية ونحو اعادة اكتشاف الماضي الوثني لأوروبا، ممثلاً بالتراث اليوناني الروماني. ولئن وضع عصر الأنوار نفسه تحت شعار التحرر من هيمنة الدين، فإن فشل الايديولوجيا الماركسية، التي أرادت أن تكرس نفسها وريثة ثورية لعصر الأنوار، قد ترافق، لا سيما في بعض بلدان أوروبا الوسطى مثل بولندا، بحركة "إحياء" ديني. وهذا في الوقت نفسه الذي كانت فيه العلمانية، الوريثة الشرعية لعصر الأنوار وللثورة الفرنسية، قد انتزعت لنفسها مواقع ثابتة ونهائية في الثقافة الأوروبية. وقد شهدت المداولات التي سبقت صوغ مشروع الدستور الأوروبي مواجهات، لا تخلو من عنف فكري، بين أنصار تثبيت الهوية العلمانية لأوروبا وأنصار إعادة إدماج البعد الديني في الهوية الأوروبية. وجاءت مطالبة من جانب نواب ايطاليين وبولنديين، وكذلك من جانب ممثلي الهيئات الكنسية من المجتمع المدني، بأن تتضمن مقدمة الدستور اشارة، ولو مقتضبة، الى المقوّم المسيحي في الهوية الأوروبية، أو في أدنى الاحوال إحالة ما الى "الله". لكن طلباً كهذا لم يلق قبولاً، وان جرى إرضاء اصحابه بتضمين مقدمة الدستور اشارة الى "التراث الروحي" لأوروبا. أضف الى ذلك ان فصل "الحريات" من مشروع الدستور تضمن مادة تؤكد على حرية الفكر والضمير والدين، بما في ذلك الحق في تغيير الانسان دينه والتعبير عن قناعته الدينية وممارسة عبادته بصورة فردية أو جماعية، وسواء في المجال الخاص أو "المجال العام". وهذه الاشارة الأخيرة تنطوي على بذرة خلاف قد ينفجر قبل إقرار مشروع الدستور بصيغته النهائية. فدولة علمانية مثل فرنسا ستعترض بكل تأكيد على اطلاق ممارسة الشعائر الدينية في المجال العام، لا سيما انها على وشك اصدار قانون بمنع اظهار العلامات الدينية في المدارس والجامعات وادارات الدولة.