ليس دقيقاً الزعم بأن العلمانية تفصل الدين عن الدولة والسياسة، أو أنها الضمان الوحيد لقيام نظام حكم ديموقراطي يحفظ للناس حرياتهم الشخصية والسياسية. لكن الواقع هو أن العلمانية دين يسعى إلى احتكار الدولة والسياسة، وأنها تقوم على مجموعة من المبادئ والتعاليم تؤسس لعقيدة قادرة على مواجهة أي عقيدة أخرى تستطيع التأثير في النظام السياسي للمجتمع. وكما هو الحال لدى أتباع كل دين، هناك علمانيون معتدلون متسامحون مع معارضيهم، وآخرون متطرفون يسعون إلى استئصال المعارضين ووأد حرياتهم السياسية. وهذا هو بالضبط ما نراه منذ عقود في أنظمة الحكم العلمانية في العالم العربي، وما يتوافر لها من تأييد وحماية من جانب رؤوس العلمانية في أوروبا وأميركا من أصحاب المعايير المزدوجة. كما يدل على زيف الإدعاء بحماية العلمانية للحريات الشخصية، ما أقدمت عليه تركيا وتونس من حظر للحجاب في المدارس والجامعات وأماكن العمل، ومصر من حظر للحجاب في التلفزيون وأماكن "حساسة" أخرى، وذلك قبل أن تلحق بهم فرنسا. إن "لجنة ستازي" التي أوصت بحظر الحجاب، تشكلت من مجموعة من الأكاديميين المتطرفين علمانياً، والمعروف عنهم كراهيتهم للإسلام وازدراؤهم برموزه. ولا ينبغي أبداً أن ننسى أن فرنسا العلمانية كانت مع بريطانيا، على رأس القوى المتواطئة في جريمة إبادة مسلمي البوسنة، وإجهاض دولة أوروبية وليدة ذات أغلبية مسلمة. وإذا كانت العلمانية هي الدين الغالب في فرنسا، فقد ضاعت مكانتها في أماكن أخرى أمام عقائد أكثر تطرفاً وتوحشاً، كما جرى في الهند، أوائل التسعينات من القرن الماضي أمام الهندوسية، وفي أميركا، مع وصول إدارة بوش للحكم أمام المسيحية الصهيونية. فمنذ أسابيع أعلن بات روبرتسون، أحد أشهر القيادات المسيحية الصهيونية، أن "الله أخبرني أن بوش سيكتسح انتخابات تشرين الثاني نوفمبر". والمعروف أن أي اجتماع في البيت الأبيض تسبقه صلاة تقام لطلب البركة. ولأن نسبة تأييد بوش في الجنوب الأميركي كاسحة، حذرت قيادات الحزب الديموقراطي مرشحيهم للرئاسة من أن بوش سيكتسح أي مرشح يتمسك بعلمانيته. وهذا ما دفعهم إلى إقامة ندوات تعليمية لتلقين المرشحين الديموقراطيين كيفية الظهور في صورة المتدين، وتقديم الخطاب الديني. وقد تعرض تقرير أخير في "التلغراف" ل"التحول اللافت في استراتيجية الدعاية الانتخابية للديموقراطيين، إذ يحاولون تجنيد الله إلى جانبهم لمواجهة شعبية بوش الفائقة في أوساط الناخبين المتدينين. وصرح هوارد دين أخيراً أن المسيح عيسى كان ليبرالياً ديموقراطياً، وأن السباق الرئاسي لفت انتباهه إلى أهمية إبراز المرء لهويته الدينية. أما ويسلي كلارك فقد تعاقد مع رجل دين كاثوليكي لكي يساعده في إقناع الناخبين الكاثوليك بعدم التصويت لبوش". في أماكن عديدة في العالم تتعرض فيها الأقليات المسلمة للاضطهاد، أصبح للدين الذي تنتمي إليه الغالبية دور رئيسي في صياغة سياسات الدولة وصناعة قراراتها، وأصبح دين الغالبية ركناً أساسياً في برنامج أي مرشح يسعى إلى السلطة: فإما أنه يتمسك به عن عقيدة أو أنه ينافقه طمعاً في صوت الناخب. إلا في العالم العربي والإسلامي. فمنطقتنا هي الوحيدة التي يُنتصر فيها لدين مستورد العلمانية ويُحارب فيها دين الغالبية، ويُستأصل دعاته، ويُستبعد قسراً عن لعب أي دور في رسم سياسات الدولة، وتتطوع قياداته للتهوين من شأنه ودعوة خصومه للاعتداء عليه، كما فعل أحدهم اخيراً بمنحه كل دولة غير مسلمة في العالم، بدءاً بفرنسا، "حق" انتهاك حقوق أقلياتها المسلمة، التي سيكون عليها أن تطيع وترضخ بلا اعتراض من باب "الإضطرار". صلاح عز جامعة القاهرة