"يؤسفني أن أقول لكم إن العالم أصبح مكاناً للفوضى العارمة، وان واجبكم في هذه المرحلة الصعبة يحتم عليكم التدخل لإعادة ترتيب الأمور المختلطة بغير نظام". هذا ما قاله أمين عام الأممالمتحدة كوفي أنان، يوم واجه موظفي المنظمة الذين تجمعوا في مكتبه للاحتفال بمناسبة نيله جائزة نوبل للسلام 12 تشرين الأول/ اكتوبر 2001. ولقد قوبلت كلماته بالتصفيق والهتاف لأنه أوحى للعاملين في المنظمة بأن الجائزة مُنحت لهم أيضاً كمكافأة جماعية لقاء مشاركتهم في عمليات صنع السلام في الصومال والبوسنة ورواندا. ثم جاءت حرب أفغانستان لتضيف إلى مآثر أنان مأثرة جديدة، وذلك بواسطة ممثله الأخضر الإبراهيمي الذي أشرف على محادثات "بون" وجعل منها منطلقاً لتشكيل حكومة انتقالية. وكان من الطبيعي أن تقابل هذه الخطوة بالمديح والثناء، خصوصاً بعد النجاح الذي لقيته المنظمة في تيمور الشرقية وكوسوفو. لكن هذه الايجابيات سقطت في الامتحان الأميركي، لأن أنان رفض تجاوز مجلس الأمن في شأن قرار إعلان الحرب على العراق، وقال إنه يمثل مصالح وحقوق 191 دولة وليس مصالح الولاياتالمتحدة فقط. وفسر الرئيس جورج بوش هذه العبارة بأنها محاولة سياسية لتأجيل عملية اسقاط صدام حسين، الأمر الذي حرض بوش على إعادة النظر في دور الأممالمتحدة ومسؤولياتها. وعلق أنان على حملة التهويل التي شنها الرئيس الأميركي ضده، بالقول: "يجب الاعتراف بأن الذين يحملون على المنظمة، قد يحتاجون إليها قريباً". وهذا ما حدث بالفعل يوم السبت الماضي عندما استقبل أمين عام الأممالمتحدة وفد مجلس الحكم العراقي، الذي تمنى عليه ضرورة المساهمة في وضع دراسة ميدانية تتعلق بإمكان اجراء انتخابات عامة قبل 30 حزيران يونيو المقبل، أي قبل موعد نقل السلطة إلى الشعب العراقي حسبما حدده اتفاق واشنطن ومجلس الحكم الانتقالي. ويبدو أن الإدارة الأميركية اختارت هذا الوقت كي تجعل من عملية نقل السلطة في العراق ورقة انتخابية رابحة يمكن أن تكسب جورج بوش أصواتاً إضافية في معركة الرئاسة. وبما أن الوضع الأمني لا يسمح باجراء انتخابات حرة ونزيهة، فقد اقترح رئيس سلطة التحالف بول بريمر تعيين مجلس تأسيسي تعهد إليه مهمة وضع الدستور وتنظيم آلية اختيار المجلس التشريعي. وواضح أن الهدف من وراء هذه الصيغة المموهة هو شراء فترة زمنية لا تقل عن سنة تقريباً يصار خلالها إلى رسم خطة دستورية تمنع العراق من استنساخ نموذج النظام الإيراني. وفجأة، ظهر في صورة الأحداث آية الله علي السيستاني ليعلن باسم الآلاف من أتباعه رفضه القاطع لاختيار مجلس تشريعي انتقالي يجري انتخابه بواسطة مؤتمرات شعبية. كذلك رفض وضع دستور يخدم أهدافاً سياسية معينة، وطالب ب"دستور يكتبه عراقيون منتخبون من قِبل عراقيين". وكان من الطبيعي أن يحدث هذا الكلام الصريح ضجة في الأوساط السياسية الأميركية التي رأت في الظهور المفاجئ للسيستاني بعثاً لتيار قاده قبل ربع قرن آية الله الخميني. ولقد حقق هذا التيار انتصارات جمة، واستطاع أن يبني أول جمهورية إسلامية يحكمها رجال دين. واستغلت الصحافة الأجنبية أصله الإيراني لتشكك في نيات السيستاني، وتقول إنه يمثل حصان طروادة داخل العراق خدمة لشيعة بلاد فارس. ومع أنه حصر مطالبه باختيار مجلس تشريعي وطني، إلا أن بعض المعلقين البريطانيين كتب إن خضوع مجلس الحكم لرغباته سيمهد الطريق لولادة نظام عراقي جديد تحكمه أكثرية شيعية 60 في المئة. وبحسب تحاليلهم، فإن انتصار تيار السيستاني سيضعف حظوظ الإصلاحيين في إيران، ويمهد لإنشاء حلف ثنائي يضم 90 مليون نسمة، في دولتين غنيتين تمتد رقعتهما من أفغانستان حتى تركيا وسورية. والطريف أن الظاهرة السيستانية استطاعت أن تجر وراءها كل زعماء الشيعة بمن فيهم مقتدى الصدر، الذي لعب في السابق دوراً بارزاً ومؤثراً في شوارع بغداد والنجف وكربلاء. مصادر مقتدى الصدر تقول إن إيران عقدت صفقة سياسية مع الولاياتالمتحدة كان من نتيجتها تلميع صورة السيستاني وتضخيم شعبيته. وتشير هذه المصادر إلى المخرج الديبلوماسي الذي اقترحه السيستاني لتحرير واشنطن من التزاماتها عندما وافق على الأخذ بوجهة نظر خبراء الأممالمتحدة حول موضوع اجراء انتخابات خلال ثلاثة أشهر. ولقد اختصر رئيس مجلس الحكم الانتقالي عدنان الباجه جي في حديثه إلى "الحياة" أهم العوائق التي تحول دول تحقيق آلية التنظيم الانتخابي خلال فترة قصيرة، فقال: "نحن نتفق مع آية الله السيستاني على أن الانتخابات العامة تبقى أفضل اسلوب لاختيار أعضاء المجلس التشريعي، ولكن العملية الانتخابية لا تتم من دون توافر شروط أساسية بينها: الاحصاء السكاني وقانون انتخابات، ونظام قضائي يضمن نزاهة الانتخابات، وقانون ينظم العمل الحزبي ويضمن حرية الاجتماع وحرية الرأي". ومن المؤكد أن السفير الأخضر الإبراهيمي، الملقب برجل المهمات الصعبة، سيضيف إلى هذه الشروط الصعبة شروطاً أخرى بينها: تجريد المواطنين من السلاح لضمان أمن الناخبين، والاتفاق على موعد انسحاب القوات الأجنبية، ووضع دستور مرضٍ لمختلف الفئات والأعراق والطوائف والأقليات. ويرى المراقبون أن الاتفاق على تحقيق واحد من هذه الأهداف يبدو مستبعداً في ظل الأوضاع المتفجرة، لأن الفريق السنّي يعتبر نفسه مهمشاً ومغبوناً. وهذا ما قاله حسين الجبوري، محافظ محافظة صلاح الدين أثناء اجتماعه بالحاكم الأميركي المدني بول بريمر. لقد أبلغه عن استياء سنّة العراق من التمثيل الصارخ للفريق الشيعي الإيراني في العراق داخل مجلس الحكم الانتقالي، في حين أهملت مسألة تمثيل المحافظات السنّية الأربع الكبرى، أي الموصل وصلاح الدين والرمادي وديالى. ولكي تعوض واشنطن عن قصورها تجاه الفريق السني طلبت من الجنرال جون أبي زيد القيام بجولة انفتاح وتطمين شملت مدن تكريت والموصل والفلوجة والرمادي حيث الغالبية السنية. ونقل أبي زيد شكاوى محاوريه وتذمرهم الى واشنطن، الأمر الذي استدعى ارسال مساعد وزير الخارجية ريتشارد ارميتاج الذي زار العراق ووعد السنة بمنحهم دوراً أكبر في عملية التغيير يتناسب مع مكانتهم وانتمائهم العربي. الإدارة الاميركية لا ترى في موقف المثلث السني خطراً يتهدد وحدة العراق أكبر من الخطر الذي يمثله اصرار زعماء الأكراد على توحيد خمسة ألوية في كيان قانوني داخل العراق. وهم يتفقون على طرح مطلب واحد خلاصته ان يكون لكردستان اقليم مستقل ومميز يحميهم من المجازر التي تعرضوا لها منذ سنة 1930. بل ان غالبيتهم تعيد مواقف الحكومات المركزية في بغداد الى سنة 1921 يوم احتل الفوج العراقي الأول كردستان جنباً الى جنب مع القوات البريطانية. واستناداً الى الخلفيات التاريخية التي بدأت مع ثورة الأكراد عام 1961 ضد الأنظمة الحاكمة في بغداد، يتوقع الأكراد تحقيق مطالبهم القومية المشروعة. وهم يعبرون عنها بمشروع الفيديرالية التي وصفها زعيم حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" جلال طالباني بأنها فيديرالية جغرافية لا عرقية، بحيث يكون موقعها في المناطق المعروفة تاريخياً "بكردستان العراق". ويبدو ان طالباني تعمد اعلان هذه الصيغة الجغرافية المحددة لكي يبعد عن تركيا وسورية وايران المخاوف التي ذكرها بشار الأسد واردوغان اثناء اجتماعهما في انقرة. أي المخاوف من انشاء دولة قومية للأكراد تجمعهم من العراقوتركيا وسورية وايران. وهذا ما حاول صدام حسين منعه ايضاً بقوة السلاح. والطريف انه اختار لكردستان تمثاله وهو باللباس العربي لكي يؤكد لمواطني تلك المناطق رفضه الاعتراف بالقومية الكردية. يقود هذا الوضع المتعفن الى السؤال المعقد: ماذا يريد زعماء الأكراد؟ يُستدل من الطروحات التي عُرضت في واشنطن ان الاحزاب الكردية متفقة على استنساخ النموذج البلجيكي القائم على الجمع بين قوميتين مختلفتين. وهي تستند الى نماذج عدة، مثل الولاياتالمتحدة وروسيا والمانيا وكندا وسويسرا وبلجيكا. ويتردد في بغداد ان الصيغة التي لاقت الاهتمام كانت صيغة تقسيم العراق الى خمسة اقاليم فيديرالية اقليم كردستان واقليم بغداد وثلاثة اقاليم أخرى للقسم الغربي والفرات الأوسط والجنوب. ويبدو ان هذه الصيغة أرضت بول ولفوفيتز ومجموعته لأنها تفتح المجال لمراعاة الخصوصيات الجغرافية والادارية والقومية والثقافية والمذهبية. عندئذ يأخذ السنة حصتهم من "كعكة الحكم" بنسبة 20 في المئة، لا بنسبة 40 في المئة لكونهم يحسبون الأكراد في عدادهم المذهبي. علماً أن الأكراد لم يعانوا من اضطهاد الشيعة كما عانوا من اضطهاد السنة في العراقوتركيا. على الصعيد الأميركي، طرح المنظرون مشروعاً لتقسيم العراق الى 18 اقليماً، أو الى انشاء فيديرالية قائمة على اساس ثماني عشرة محافظة. والهدف من وراء هذا التقسيم الاداري منع تشكيل دولة عراقية قوية يمكن ان تصبح خطراً على جاراتها، وعلى اسرائيل بالذات. ومع الإصرار على تفكيك دعائم الدولة العراقية السابقة، يحاول الاميركيون تدمير النظرية القومية الكلاسيكية التي تطورت في القرن الماضي وتأثر بها العرب خلال نهضتهم. وبما ان ادارة جورج بوش - بتوجيه اسرائيلي - معنية بتعديل الأنظمة الحاكمة وتغيير الشروط الجيو - سياسية، فإن المشروع القومي، في نظرها، لم يعد الوسيلة المجدية لتحقيق تقدم ملحوظ. وهي ترى ان فشل مشروع الوحدة العراقية - السورية في ظل حزب البعث، كشف عن عجز النظرية القومية في ادراك آليات الواقع الموضوعي، الأمر الذي أفرز نمطاً من الحكم الاستبدادي كان صدام حسين أبلغ رموزه. في ضوء هذا الواقع المعقد الذي انتجته حرب العراق، يطل وزير خارجية بريطانيا جاك سترو ليحذر من مخاطر السقوط في فراغ الحكم، الأمر الذي يذكر بالأحداث التي انفجرت في دول البلقان عقب انهيار المنظومة الاشتراكية، وكان ذلك بسبب سقوط السلطة الشرعية واستشراء الفوضى بطريقة قادت الى حرب اهلية في يوغوسلافيا. ولكي لا تتكرر هذه المآسي في العراق تقول صحيفة "ذي غارديان" ان الوزير سترو نصح نظيره الاميركي كولن باول بضرورة اجراء انتخابات جزئية اذا ثبتت للأمم المتحدة استحالة اجراء انتخابات عامة. ووصف قوات التحالف بأنها مثل راكب الدراجة الهوائية الذي يخشى السقوط اذا هو توقف عن استخدام الدواسة. ومع ان هذه القوات فقدت توازنها ودخلت في حال الترنح، إلا ان الوزير سترو يؤمن بأن الفرصة مواتية لانقاذ العراق من حرب أهلية مدمرة يصعب تقدير عواقبها على المنطقة. ولهذا يسعى البريطانيون الى تأجيل الحلول المفروضة، لأن إبقاء المسألة معلقة من دون حل، أفضل بكثير من ارغام العراقيين على قبول تسوية تنهي نفوذ السنة أو تفصل كردستان عن جغرافية العراق! * كاتب وصحافي لبناني.