لائحة السلوك "الليبية" التي وضعها البيت الأبيض لتبرير ابقاء العقوبات الأميركية على طرابلس، على رغم تأييد رفع العقوبات الدولية بعد 15 سنة على حادث لوكربي، قد تعني أي بلد لا يحظى برضا واشنطن ولا يلتزم معايير الصداقة التي تفرضها، بل شروط الطاعة، في مفهوم المحافظين الجدد. وإن كان اعتراف الجماهيرية بمسؤولية ما عن قتل 270 بريئاً، يبقي المجال مفتوحاً لتكهنات عسيرة، بعواقب قد يتحملها الحكم الليبي، في حال أعيد فتح ملف التحقيقات، فصفقة التعويضات لذوي الضحايا، تسجل أكثر من سابقة. وضمن أبسط التساؤلات، هل تتحمل الدولة، أي دولة، مسؤولية جزائية عن فعلة أي من مواطنيها في العالم؟… هذا بالطبع، بافتراض براءة جميع المسؤولين الليبيين من جريمة لوكربي، ولو كانت يد الحكم بريئة. والأكيد أن رفع العقوبات الدولية لن يكفي لتقديم صك البراءة الكاملة لطرابلس، ما دامت قبلت بمزيد من التعاون في التحقيقات، ما يفترض بالتالي توقع فصل جديد، قد تسميه الجماهيرية ابتزازاً، وتصفه واشنطن باستكمال حساب، بحثاً عن الحقيقة. ولا يغيب دائماً حساب النيات "الطيبة" لمخططي الإدارة الأميركية، فليبيا كسواها ليس مسموحاً لها أن تشاكس أو تشاغب لعرقلة خططهم ورؤاهم لأدوار الولاياتالمتحدة في العالم، بما في ذلك افريقيا التي مد العقيد القذافي أصابعه إلى أكثر من بلد فيها، وأكثر من حرب، بحثاً عن أدوار خلفية… حتى قبل سأمه من ترهل جامعة الدول العربية. ولأن الوقت وقت تسديد فواتير، لن تكون التعويضات في أي حال تبييضاً للسجل الليبي، وبين خفايا الصفقة الأميركية - البريطانية يختبئ "فخ" آخر، فيما يصعب التسليم بالحديث عن ضمانات جديدة قدمت إلى طرابلس، لاغرائها بتحمل مسؤولية عن الجريمة، وفي وثيقة إلى مجلس الأمن، تحمل بكل المقاييس عنوان ادانة ذاتية. "الفخ" الآخر في الصفقة، كان من نصيب فرنسا التي ابتليت بعداوة جديدة مع إدارة الرئيس جورج بوش، لم تسعَ إليها. في الظاهر، تمرير الاتفاق بين طرابلس وكل من واشنطن ولندن، بما يؤدي إلى رفع العقوبات الدولية، سيعني ببساطة "بيع دماء" ضحايا طائرة "يوتا" بثمن بخس، أقل بكثير من قيمة الدم الأميركي - البريطاني، وارغام فرنسا مجدداً على الرضوخ لمشيئة الحلف "السحري" بين بوش وتوني بلير، إلى الحد الذي يجعل صوتها كصوت أي دولة نامية، في العالم الثالث، ويحوّلها تابعاً صغيراً. هي إذاً، حلبة أخرى تجدد الأحقاد التي لم تهمد على ضفتي الأطلسي، منذ الحرب على العراق. وربما يكون أفضل تشبيه للعلاقات الفرنسية - الأميركية في عهد بوش، هو علاقات الضغائن والثارات بين فرنسا والمانيا في القرن الماضي، مع فارق وحيد: واشنطن ليست برلين، والبيت الأبيض في ظل "عولمة" خطط المحافظين الجدد، لا يقوى على التعامل مع أي بلد وأي حكم في العالم إلا من خلال علاقة الآمر والتابع. الأكيد أن القارة الأفريقية هي إحدى الساحات الأكثر سخونة للصراع الأميركي - الفرنسي، بل ان باريس لا يمكن أن تتجاهل محاولات مكشوفة لاذلالها في عالم كان على مدى عشرات السنين يدور في فلكها. ولكن، إذا كانت جهود واشنطن ل"سرقة" أدوارها في افريقيا، تمنحها مبرراً ثانياً للانتقام عبر استخدام "الفيتو" في مجلس الأمن لاحباط رفع العقوبات الدولية عن ليبيا، لا يلغي ذلك التساؤل عن قدرة فرنسا على المضي حتى الشوط الأخير في معركة كسر العظم مع الولاياتالمتحدة، أي قدرتها على الثأر. في الحرب على العراق، أعفت إدارة بوش باريس من سلاح "الفيتو"، فكانت حرباً من دون شرعية دولية. سبب آخر لدى أميركا لممارسة مزيد من الاذلال مع فرنسا. لكن العقوبات الدولية لن ترفع عن ليبيا إلا بقرار يتبناه مجلس الأمن، وإصرار الاليزيه على رفع "قيمة" ضحايا "يوتا"، كشرط وحيد للقرار، سيقدم للإدارة هدية، للطعن مجدداً في أخلاقية السياسة الفرنسية التي نجحت دوائر "الصقور" في واشنطن في تهشيمها خلال الحرب، ووصمها بالانتهازية مع صدام لجني أرباح ومكاسب اقتصادية. هو اختبار عسير للاليزيه أمام أنانية الإدارة الأميركية التي اختارت التفرد بمسار واحد في "صفقة" التعويضات الليبية، فيما باريس لم تعد تقوى على تحمل طعنة جديدة، وصفعة اذلال من "الحليف" الذي تحول عدواً.