نحن العرب مدينون لبريطانيا توم هورندال، لا لبريطانيا روبرت كيلروي سيلك. هورندال ناشط سلام بريطاني شاب توفي أمس بعد غيبوبة طويلة، سببها رصاصة في الرأس أطلقها عليه جندي اسرائيلي في نيسان ابريل 2003، ولم يكن هورندال انتحارياً أو حتى رامي حجارة وانما مجرد شاهد على الوحشية الاسرائيلية، ولم تعد حكومة شارون تطيق رؤية مثل هؤلاء الشهود لذا تبنت قراراً غير معلن بتصفيتهم. قتلوا راشيل كوري، وقتلوا توم هورندال، وتسببوا بعاهات واصابات للعديد من نشطاء السلام وبينهم يهود اسرائيليون، عدا الارهاب النفسي الذي يمارسونه ضدهم في المطارات وعلى الحواجز. أما الآخر، كيلروي، الإعلامي البريطاني صاحب البرنامج الحواري الذي يظهر فيه كأنه ملاك بريء مفعم بالأخلاقية واحترام الانسان، فتبين نهائياً ان له وجهاً آخر لا يظهره إلا في بيئته الخاصة المنتنة. كيلروي هذا إعلامي ناجح لكنه كاتب تافه. وأقل ما وصفه به نواب بريطانيون، بعد ظهور مقالة الكراهية التي كتبها ضد العرب، أنه غبي. وبعد الشكاوى التي قدمت ضد كيلروي، وقرار ال"بي بي سي" وقف برنامجه في انتظار التحقيق الذي تجريه الشرطة بشأن مقالته، شن اليهود حملة تأييد له ونظمت محطات تلفزيونية أخرى نقاشاً حول "حقه" في الكتابة، وأجرت استفتاءات "مع" أو "ضد" كيلروي. وبطبيعة الحال كان متوقعاً أن ينال كل الدعم والتأييد لأن خصومه عرب ومسلمون. وهكذا بدا كأن كيلروي "خلية نائمة" لا تختلف عن خلايا الارهاب. خلية وظيفتها ان تشتم العرب، لمجرد أنهم عرب. ويحاول النقاش الدائر، الذي اشرك فيه بعض الانتهازيين العرب، ان يحرف المسألة ليجعلها مسألة "حرية رأي" و"حرية تعبير"، وكأن العرب تحولوا أداة قمع قادرة على فرض ارادتها على الإعلام البريطاني. المسألة تتعلق بالعرب جزئياً لكنها تتعلق خصوصاً ببريطانيا نفسها وما إذا كان لا تزال لديها قيم ومبادئ رادعة لكل من يعتدي على الآخرين بشراً وشعوباً. كيلروي الصهيوني ليس أول كاتب بريطاني يهاجم العرب وينتقد أنظمتهم وسياساتهم وحتى عاداتهم وخصوصياتهم، ولا مانع من أي نقد مهما كان قاسياً اذا كان نزيهاً، أما أن يكون مجرد شتيمة، بل شتيمة للشعوب واهانة لتاريخها وحاضرها، فإنه يصبح عندئذ مهاترة شارعية لا هدف لها سوى نشر الحقد وتغذيته. وعلى رغم كل الانعكاسات المضخمة والانفلاتات الكلامية التي بلغت حتى تصريحات رئيس الوزراء توني بلير عندما تحدث عن "الفيروس الاسلامي" مشيراً الى الارهاب، بقيت الغرائز بعيدة عن التعامل الحكومي الرسمي مع العرب والمسلمين. لكن المناخ القذر الذي أشاعه اللوبي الصهيوني في الإعلام البريطاني يسعى الى تغليب الغرائز على القوانين. فمحصلة هذا النقاش ستختزل بأمرين: مع كيلروي أو ضده. لكن "معه" تعني مع حقه في تحقير العرب، وليست مع حقه في التعبير عن رأيه لأنه كان ولا يزال وسيستمر في التعبير عن رأيه بموجب الحرية التي يضمنها النظام البريطاني، لا بفضل اليهود الذين يستخدمونه اليوم، ولا بفضل العرب الذين يخصهم بتفاهاته. ولحسن الحظ فإن هناك أصواتاً بريطانية متعقلة فضلت تفعيل المؤسسات الحكومية والبرلمانية لمعالجة المسألة، بعدما اختطف اليهود الإعلام وجندوه في "معركة" لن تفيدهم في نهاية المطاف، خصوصاً أنهم مهجوسون ب"اللاسامية" ويتهمون بها كل من يتعرض لهم ولو بنقد علمي منصف. ما فعله كيلروي هو تطبيق "لاسامية" في اتجاه آخر. لا شك ان ال"بي بي سي" لم توقف برنامجه اكراماً للعرب والمسلمين في بريطانيا، وانما انطلاقاً من مبادئ وقواعد تفترضها في الإعلاميين لديها. لكن هذه الهيئة العريقة تتعرض الآن لضغوط لإلغاء القرار الذي اتخذته حيال كيلروي، وسيكون مهماً لصدقيتها أن لا تنزلق لمساعي لفلفة القضية كأنها لم تكن. لا أحد يريد مصادرة حق هذا الإعلامي أو ذاك في القيام بعمله، وليست هذه هي المسألة أصلاً. لذلك ينبغي الا تُحسم ب"سابقة" يكافأ كيلروي بموجبها على شتائمه للعرب. هذه خدمة مجانية للمتطرفين والمتعصبين... من الجانبين.