وازَنَ د. وحيد عبدالمجيد بين موقفي منظمة "فتح" وحركة "حماس"، خلال حوار الفصائل الفلسطينية الأخير في القاهرة. ووجه الاجحاف في تلك المقارنة انه أنقص كفة "حماس"، على امتداد مقاله "الحياة" في 2/12/2003، في مقابل ترجيح كفة "فتح"، ولم يترك مجالاً - ولو يسيراً - ليذكر "حسنة" ل"حماس" في مسألة الحوار والتفاهم ووحدة الصف الفلسطيني. وقد حشد عبدالمجيد وابلاً من الانتقادات ل"حماس"، في مقابل إعلاء مواقف "فتح" وتجربتها، وإحاطتها بالتقدير والإعجاب. ف"فتح" هي التي اقترحت، ومعها مجموعة من الفصائل، إعلان هدنة مشروطة بالتزام "اسرائيل" بها، وتوفير ضمانات اثبتت مدى قدرتها على تقدير الموقف وتحديد متطلبات المرحلة، في مقابل "حماس" التي رأت، ومن معها، الاكتفاء بتحييد المدنيين من الجانبين، وذلك "يكشف عن افتقادها الامكانات الضرورية لتقدير الموقف". و"فتح" أحسنت تقدير الموقف في ميدان الصراع... ويرجع الكاتب نجاح شارون في إفشال أي محاولة لاستئناف المسار، وإحياء خطة "خريطة الطريق"، الى أخطاء "حماس" والفصائل القريبة منها، وعدم إدراكها أن وقف بناء الجدار التوسعي يحتل الأولوية القصوى للنضال الفلسطيني. ويسترسل عبدالمجيد، ضارباً على الحس الوطني، هامزاً ولامزاً. تلك نظرة وحيد عبدالمجيد الى "حماس" في مقابل "فتح". وهي نظرة أقرب الى كيل التهم المجحفة منها الى التحليل السياسي. وهي تسوّق لفكرة معسكر التفاوض المتعلق بسراب "السلام". وعلى كل الأحوال فإن للدكتور وحيد رأيه وقناعاته، وله مطلق الحرية فيها. ولكننا نخالفه في ما يأتي: أولاً، نعم، من المهم ل"حماس" وغيرها الإلمام بتراث حركات التحرر الوطني وأدبياتها، وأعتقد أنها فعلت ذلك. والأكثر منه أنها تستوعب تضاريس القضية الفلسطينية وتاريخها جيداً، منذ نشوئها وتطورات مراحل الصراع فيها. ومن يتوقف ملياً أمام وقائع الصراع منذ بواكير انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1919 حتى اليوم يكتشف ان كل مشاريع السلام التي طرحت على الشعب الفلسطيني - سواء كانت في شكل لجان تحقيق أو إعلان هدنة أو وقف موقت للانتفاضات المتتالية أو حتى هدنة في الحرب، خصوصاً الهدنة الأولى في حرب عام 1948 - لم تحقق للطرف الفلسطيني إلا مزيداً من الخسائر في ميزان حقوقه، من جانب، وإطفاء لجذوة النضال من جانب آخر، لمصلحة الطرف الصهيوني. وليذكر لنا الدكتور وحيد مثالاً واحداً على نجاح أي من مشاريع السلام التي طرحت على امتداد تاريخ القضية، قبل ظهور "حماس" على الساحة وبعدها. ثانياً، ان "فتح" التي تحسن تقدير المواقف، وتلم بتراث حركات التحرر وصار عليها عبء معالجة أخطاء "حماس"، صاحبة تجربة ليست بالقليلة في التفاوض مع العدو الصهيوني، وعقد اتفاقيات سلام معه منذ مدريد حتى "خريطة الطريق"، وهي مسيرة لا تزال متواصلة، هي اليوم أمام الحقيقة. فقد عاد كل شيء على أرض الواقع الى نقطة الصفر، أي الى ما قبل اتفاقيات أوسلو: احتلال كامل التراب الفلسطيني. فإذا كانت كل الاتفاقيات والمفاوضات، عبر هذه السنوات، لم تجدِ نفعاً، فلمَ كل هذا الغضب من وحيد عبدالمجيد على أن "حماس" لم توافق على هدنة مع العدو، وكأن فرصة نادرة قد ضيعتها "حماس" لوقف بناء الجدار! وكأن المجتمع الدولي والرأي العام، داخل الكيان الصهيوني كان ينتظر متحفزاً ليعلن الفلسطينيون الهدنة، فينقضّوا ضغطاً على شارون لوقف البناء وإنقاذ فلسطين! ثالثاً، ان اختصار "حماس" وتجربتها وجهادها في "سوء قراءة الواقع... وضعف التجربة... وافتقاد الامكانات الضرورية لتقدير الموقف وتغليب نزعتها الذاتية وإعلاء مصلحتها للتنظيم ]على مصلحة فلسطين بالطبع[... وتحمل الشعب أخطاءها الفادحة.."، اختصار "حماس" في هذه الصورة العبثية هو اجتهاد في غير محله على الاطلاق. ويكفي ان نشير هنا الى أن "حماس" عبر مسيرة ستة عشر عاماً منذ نشأتها قد أحدثت - ومعها قوى المقاومة الاسلامية والوطنية - انقلاباً في ساحة الصراع، وفرضت واقعاً جديداً على الأرض، وعلى جميع القوى المتصلة بالقضية الفلسطينية. فتجربتها "المتواضعة"، في رأي د. وحيد، على الصعيد العسكري هي التي أبدعت نظرية "توازن الرعب مع العدو". ومنذ دخولها الى ساحة الصراع العسكري أصبح هناك توازن في الرعب، على رغم اختلال ميزان القوة، الأمر الذي دفع الصهاينة الى المسارعة الى اتفاقيات أوسلو وأخواتها، والى مؤتمرات شرم الشيخ المتتالية، والتي هدفت جميعاً الى قطع الطريق على استمرار العمليات الاستشهادية التي زلزلت كيان العدو، كما هدفت الاتفاقيات والمؤتمرات الى إيجاد طرف فلسطيني السلطة يتعامل مع ظاهرة "حماس" ويتولى اجتثاثها. فلما فشلت السلطة حاق بها ما يجري لها اليوم. والعجب يعترينا من وضع الدكتور وحيد "حماس"، التنظيم والايديولوجيا، في كفة و"فلسطين" في كفة أخرى. وتلك معادلة غاية في الاعوجاج وليّ الحقائق. ف"حماس" ولدت بداية من رحم المحنة الفلسطينية، ونبتت في التربة الفلسطينية كضرورة فلسطينيةأصيلة ولهدف واحد، ليس على الاطلاق إيجاد تنظيم أو الدعاية لايديولوجية، وإنما تحرير كامل التراب الفلسطيني. ولا ترضى "حماس" بغير التضحية بالنفس بديلاً، وذلك ما يذهب عقول اليهود الحريصين على الحياة بكل طريقة ولتجدنهم أحرص الناس على حياة... البقرة، 96. ثم ما العيب في أن تقدر "حماس" يوماً قبول هدنة، ثم تقدر، في ظرف آخر، رفض تلك الهدنة؟ هل المطلوب من "حماس" أن تبصم "للسلطة" بكل ما تريد؟ وهل صحيح ان موافقة "حماس" على الهدنة "كانت فرصة لها لكي تثبت عدم سلامة قرار الاتحاد الأوروبي بإدراج جناحها السياسي بعد جناحها العسكري في قائمة المنظمات الإرهابية؟". هل يعتقد الدكتور وحيد ان الموقف الأوروبي يمكن أن تهزه موافقة "حماس" على الهدنة أو غيرها من الخطوات الاستسلامية؟ ألم يذكر وحيد عبدالمجيد أن ادراج أوروبا "حماس" ضمن المنظمات الارهابية جاء بعد أن قضى شارون على هدنة حزيران يونيو الماضي باغتيال المهندس اسماعيل أبو شنب؟ وجاء وسط حمى من المذابح الصهيونية البشعة للشعب الفلسطيني؟ وجاء بعد عملية دعائية أميركية قادها الرئيس بوش بنفسه ضد "حماس" من دون ذكر - مجرد ذكر - للانتهاكات الصهيونية بكلمة واحدة؟ وإذا كان الشعب الفلسطيني يدفع ثمن أخطاء "حماس" على حد قول وحيد عبدالمجيد، فمن حقنا أن نسأله: من أين استقى هذه المعلومة بالضبط؟ هل اشتكى له أحد من الشعب الفلسطيني من "حماس"؟ لو كان كلامه صحيحاً لانفض الناس من حول "حماس"، ولتدنت شعبيتها. ولكن العكس هو الذي يحدث: مزيد من الالتفاف الشعبي. رابعاً، ان هناك تطوراً مهماً ينبغي الالتفات اليه وهو الاجتياح الشاروني لأراضي الضفة الغربية، وحصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وضع السلطة الفلسطينية في مربع قريب جداً - إن لم يكن نفس مربع - "حماس"، وهو مربع المقاومة. وان بروز "كتائب شهداء الأقصى" من داخل "السلطة"، وسلوكها سبيل المقاومة يداً بيد مع كل منظمات الجهاد، هو التجسيد العملي على ما نقول. وان المشهد الفلسطيني المتجسد أمامنا يؤكد ان كل القوى الفلسطينية، على اختلاف أطيافها، مجمعة على تواصل الحوار. ولئن أخفقت جولة، فهناك جولات. وهي مجمعة على الالتئام والتفاهم. ولم يعد لمنهج التدابر والصراع مكان بينها. وذلك ما ينبغي تشجيعه ودعمه والحفاظ عليه. وفي كل الأحوال، فإن "حماس"، أو غيرها في ما اعتقد، ليست فوق المراجعة، ومن واجبها أن تراجع ما يوجه اليها، وتستفيد منه، خصوصاً انها لم تدّعِ يوماً امتلاك الحقيقة. شعبان عبدالرحمن كاتب مصري، سكرتير تحرير مجلة "المجتمع" الكويتية [email protected]