يمتحن مشروع سن قانون فرنسي في إشهار علامات التدين الفارقة والحجاب المدرسي منها ولا يختصرها بالأماكن العامة والمشتركة معالجة جماعات من المسلمين مسأل تترتب على هجرة أعداد متعاظمة منهم الى مجتمعات مختلفة، وإقامتهم الطويلة بين اهلها، وتوطنهم وإنجابهم فيها، وتوارثهم ثقافاتهم وهوياتهم من جيل الى جيل. ولهذه المسألة أوجه كثيرة لا يصح ردها الى وجه واحد، تتولى فئة واحدة او جماعة واحدة التصدي لها، واجتراح حلها في ضوء معيار تنتخبه وتقدمه على المعايير الأخرى. فمن هذه الأوجه الوجه الاجتماعي الذي يتعلق بموضع الأفراد المسلمين او جماعاتهم - حيث وحين يحضرون او يَمْثلون جماعات - من عامة مواطنيهم الآخرين في الدول والمجتمعات التي نزلوها منذ جيل او جيلين او ثلاثة. والاندماج في المواطنية العامة والمشتركة قد يصح عنواناً لهذا الوجه الذي يرفده، ويشفع به وجه ثقافي يتناول التربية والتعلم والقيم والتخاطب. والوجه السياسي هو وجه آخر. وينهض على ما يوحد المسلمين او يكتلهم كتلاً كثيرة، مستقل بعضها عن بعضها الآخر، او يفرقهم ويضمهم الى غيرهم من التيارات والأحزاب السياسية والجمعيات. فيتنازعون ويختلفون، شأنهم في ذلك شأن الجماعات السياسية الأخرى. وتنبه الإشارة الى كثرة اوجه المسألة على عبث الكلام على "خمسة ملايين مسلم فرنسي". وهو كلام يتردد في الخطب الحماسية التي يلقيها خطباء تستنمقهم الخطابة "الجهادية" في كل موقف وموقع، في إيران ومصر وسورية والأردن ولبنان. وهو كلام عبثي لأنه يبالغ في تقدير العدد أولاً، ويساوي المقيم ومهاجر الضرورة والحاجة بالمواطن الذي اختار المواطنة طوعاً على ما يشترط قانون التجنس الفرنسي على الراشد ثانياً، ويُدْخِل في الدين من لا يريد تعريفه "المواطني" تعريفاً دينياً فدينه لنفسه، ومن اختار اعتقاد معتقد فلسفي لا يتفق واعتقاد اهله، ومن لم يفكر في الأمر اصلاً، ثالثاً. وهذه "أفكار" او معتقدات متاحة في مجتمعات خرجت من التدين المشترك والموروث الملزم، إن في قوانين احوالها الشخصية، أو في احوالها الاجتماعية والسياسية والثقافية العامة. ويغفل التنطح الى الكلام نيابة عن "خمسة ملايين مسلم فرنسي" أو عن خمسين مسلماً فرنسياً، لا فرق، عن ان المواطنين الفرنسيين المسلمين ليسوا قصّراً. وهم، على خلاف "إخوانهم" ومناصريهم في "الديار الإسلامية"، يتمتعون افراداً وجماعات بحريات الضمير والمعتقد والتعبير والتجمع والتظاهر والانتخاب والتعلم، وبالحق في المعارضة. ويشاركون غيرهم من الفرنسيين في هيئاتهم ونقاباتهم وأحزابهم وصحفهم وإذاعاتهم وانتخاباتهم ووظائفهم. وهم لم يفرطوا في هذه الحقوق، لا قبل إحالة مشروع القانون "العلماني" الى المجلس النيابي الوطني، ولا بعدها. وتباينت آراؤهم في سن القانون تبايناً كبيراً، شأن عامة الفرنسيين وجمهورهم، وعلى انحاء ومذاهب متشابهة. فتخوف بعضهم، وشاركهم فرنسيون كثر خشيتهم، ان يؤدي القانون الى بلورة موقف شاجب ودامغ، يسلحه سنُ القانون بمشروعية مطمئنة ويدعوه الى بت المسائل كلها، الشائكة منها والسهلة، بتاً قاطعاً، وعلى حد واحد. واقترح بعض آخر إطالة امد مرحلة انتقالية تقتصر المعالجات في اثنائها على تحكيم مجلس شورى الدولة، على ما هي الحال فعلاً منذ 1989. وابتهج بعض ثالث بالقانون المتوقع، ورجوا ان ينجم عنه حسم المترددين والمترددات امر اندماجهم في المجتمع الفرنسي وقيمه ومعاييرهم، فلا يبقون مترجحين بين روابط تدعوهم الى الانكفاء وأخرى تشدهم الى حيث يقيمون ويعملون وقد يوافيهم أبعد أجليهم. ورفع بعض رابع لواء الإنكار والاحتجاج، ونسبوا مشروع القانون الى الظلم والاضطهاد والقسر. وبعض الفرنسيين، من اليسار الأقصى الى اليمين، يشاركون الشطر الرابع رأيه. وكثرة المذاهب والآراء والمواقف هي مرآة الحال الاجتماعية والسياسية التي يصدر عنها مسلمو هذا الضرب من المجتمعات، ويرتضيها معظمهم على أرجح الظن، ولو من باب أحكام الاضطرار والضرورة. وهي القرينة على انهم "فرنسيون مسلمون" أو أوروبيون على عدد المجتمعات الأوروبية وربما هذا ما لا يرضاه "إخوتهم" في الإيمان، ويجدون حرجاً في قبوله او حتى في تقريره والنظر إليه. فيتصدون للكلام باسمهم. ويزعمون الدفاع عنهم، ونصرتهم نصرة الجسم المحموم بعضه بعضاً، حين يتهددون الدولة الفرنسية بالعداء والمقاطعة والإرهاب، او تبنيه على سبيل التمني والانتحال رداً على "عدوانها" المزعوم على الحريات والحقوق. ويستكمل "الإخوة" المفترضون والقسريون مزاعمهم بإسكات من يقومون مقامهم وصمّ آذانهم دون مقالاتهم. فهم يتوهمون، او يوهمون انفسهم، ان الفرنسيين المسلمين إما قاصرو الإسلام وإما مغلوبون على امرهم. فيحتاجون الى الشيخ احمد الزين، قاضي الشرع "السني" الحنفي؟ الشافعي؟ بصيدا، او من هم مثله، "الحياة" في 6 الشهر الجاري ليرد عليهم حقهم في الرشد والعلم او في الإرادة والمكنة. ولعل هذا جوهر المسألة والأمر. ف"المرشد" الهضيبي والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد رشيد قباني و"الشيخ" محمد خاتمي والشيخ محمد حسين فضل الله والشيخ احمد كفتارو، وغيرهم من يرى رأيهم، يحسبون ان المسلمين، مولداً او منبتاً، هم مسلمون لا يعود امر معتقدهم وإيمانهم، وأمر الولاية على المعتقد والإيمان، إليهم، اي الى المسلمين انفسهم، بل الى "العلماء" وأهل الفتوى. وحمل المسلمين، او المتحدرين من مسلمين، على اختلاف احوالهم ومصالحهم ومنازعهم واجتهاداتهم، على حكم واحد في المسائل كلها، تعسف ووصاية يعودان الى التخيير الذي مر بين حكم القصور وبين حكم العجز. ولو حمل "المرشدون" المتنافسون على الإرشاد الفرنسيين المسلمين على محمل الرشد، ولم يتوسلوا بهم "مادة" سياسية وتحريضية، لتوجهوا إليهم بالكلام والمخاطبة، ولدعوهم هم، وليس السلطات الوطنية والهيئات الفرنسية، الى العمل في سبيل تغيير القانون. فهذه الطريق، أي دعوة الناس أو القوم الى تغيير أنفسهم وتغيير ما بهم، هي الأسلم والأكرم. ومجانبتُها دعوةٌ الى العصيان و"لبننة" والتوسل باللبنانيين، وبالقنوات اللبنانية، ممتنع أو محال من غير تواطؤ أهل الربط والحل، والهيئات التي تهبئ وتستنفر لا يخفئ عن أي وحي تلتقي وتذيع. وانتهاجها قد يعني أن "المرشدين" فهموا، أخيراً، في أي ضرب من المجتمعات يحل المهاجرون المسلمون حين يهاجرون، وما يستتبعه هذا الضرب من مزاولة الاعتقاد، وربما من الاعتقاد نفسه. وتلازم، في العقدين اللذين مرا، النازع الى الولاية العامة على المسلمين مع استخدامهم واستعمالهم في اغراض قومية وسياسية ومذهبية ضيقة. ومثلت الخمينية والأصولية السياسية على النازعين هذين وعلى تلازمهما في آن. ونجم عنهما ما نجم من "تصدير" وتوسل "ولبننة" وتحريض وإرهاب ووصاية. فالسعي في عولمة أو إجمال "إدارة" المسلمين السياسية والاجتماعية والاعتقادية من طريق "اهل ربط وحل" يقومون منهم مقام "مكتب سياسي" او "أمانة لجنة مركزية"، ادى، على الدوام، الى تفريقهم وتقسيمهم واقتتالهم. وبدد مواردهم وطاقاتهم فيما لم يعد عليهم إلا بالإخفاق والخسران. وليس إنكار الأحوال والمصالح والمنازع والاجتهادات "الوطنية" او المحلية، وأحكام الاضطرار والضرورة والمناسبة والتبيين الناشئة عنها، إلا وجهاً من وجوه الطمع في "إدارة" مركزية متوهمة. وتترتب على هذه "الإدارة" امور ليس اقلها التعسف والإكراه والازدراء والإضرار والإحراج والإخراج و"الاستبدال" وهو حلول الجزء المتسلّط محل الجمهور عنوة. ولعل إهمال "ناصري" الفرنسيين المسلمين آراء من يزعمون نصرتهم والتضامن معهم، وجهلهم بمنازعهم ومناقشاتهم واجتهاداتهم قرينة على هذه الأمور مجتمعة. ولا يبرأ الفرنسيون المسلمون من تبعة الإهمال والجهل هذين ووزرهما. فإذا ارادوا حقيقة وفعلاً، اسلامهم، فما عليهم إلا رفع الصوت على الملأ به. * كاتب لبناني.