"اليوم الوطني".. لمن؟    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    بعد اتهامه بالتحرش.. النيابة المصرية تخلي سبيل مسؤول «الطريقة التيجانية» بكفالة 50 ألفاً    تفريغ «الكاميرات» للتأكد من اعتداء نجل محمد رمضان على طالب    السعودية تتصدر دول «العشرين» في نمو عدد السياح الدوليين في 2024    البكيرية تستعد للاحتفاء باليوم الوطني 94 بحزمة من الفعاليات    الصين لا تزال المصدر الرئيس للاوراق العلمية الساخنة    القيادة تهنئ الحاكم العام لبيليز بذكرى استقلال بلادها    كلية الملك فهد الأمنية الشرف والعطاء    الشرقية: عروض عسكرية للقوات البحرية احتفاءً بيوم الوطن    بلدية الخبر تحتفل باليوم الوطني ب 16 فعالية تعزز السياحة الداخلية    زاهر الغافري يرحلُ مُتخففاً من «الجملة المُثقلة بالظلام»    الفلاسفة الجدد    حصن العربية ودرعها    أبناؤنا يربونا    تشكيل الإتحاد المتوقع أمام الهلال    مآقي الذاكرة    "البريك": ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الإنتماء وتجدد الولاء    شكر وتقدير لإذاعتي جدة والرياض    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الفوز على ضمك    مصر: تحقيق عاجل بعد فيديو اختناق ركاب «الطائرة»    اختفاء «مورد» أجهزة ال«بيجر»!    إسرائيل - حزب الله .. لا تهدئة والقادم أسوأ    الشورى: مضامين الخطاب الملكي خطة عمل لمواصلة الدور الرقابي والتشريعي للمجلس    انخفاض سعر الدولار وارتفاع اليورو واليوان مقابل الروبل    "الأوتشا" : نقص 70% في المواد الطبية و65% من الحالات الطارئة تنتظر الإجلاء في غزة    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على القصيم والرياض    فلكية جدة: اليوم آخر أيام فصل الصيف.. فلكياً    2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    رياض محرز: أنا مريض بالتهاب في الشعب الهوائية وأحتاج إلى الراحة قليلاً    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قراءة في الخطاب الملكي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على مقال "نعم بيد عمرو ... إن لم تسارع أيدينا إلى التغيير". مقال سعدالدين ابراهيم و"مدرسته" أشبه بتحقير لدور المثقفين العرب في المرحلة الراهنة
نشر في الحياة يوم 09 - 09 - 2003

ظننت انني سأقرأ للدكتور سعدالدين ابراهيم - بعد المحنة الطويلة التي مرّ بها - كلاماً مختلفاً في مضمونه عما قرأته في مقاله في "الحياة" 13/8/2003 في عنوان "نعم بيد عمرو... إن لم تسارع أيدينا الى التغيير"، ولكن، وجدت المقال لا يزيد كثيراً إلا في درجة الشطارة والمهارة، على ما قرأناه خلال الأعوام الأخيرة، وخصوصاً بعد أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001، وما زلنا نقرأ مثله بأقلام كتاب ينتمون الى المدرسة نفسها. هي فعلاً مدرسة كاملة، وليست كتابات متناثرة لكتّاب مختلفي المشارب. مدرسة لا تفصح كتاباتها دائماً عن النتائج التي تريد الترويج لها، لكن استخلاص هذه النتائج والتوصيات، من شعبها ومسالكها الملتوية والمعوجّة، ليس مهمة عسيرة. وهي مدرسة أجدني اختلف مع كل مقوماتها واستنتاجاتها، سياسياً واخلاقياً، لكنها مدرسة تتمتع الآن للأسف بكل الامتيازات في صحفنا ومجلاتنا، كما في صحف العالم ومجلاته، ما يجعل الاشتباك معها ضرورياً وواجباً، وان كان ايضاً ثقيل الوطأة على النفس.
شيء واحد اتفق فيه مع هذه المدرسة، ومع مقال سعدالدين ابراهيم، وان اختلفت في كل ما عدا ذلك، هو ان حال العرب سيئة جداً ويرثى لها. اما "كل ما عدا ذلك" من تفسيرات واستنتاجات وتقويمات سياسية واخلاقية فأجده منافياً لأي قراءة منصفة للتاريخ فضلاً عن مجافاته للمنطق والحسّ السليم.
هناك عشرات الروايات التي يمكن ان تروى بها قصة العرب خلال القرنين الماضيين. وسأبدأ مباشرة بأن أذكر كيف أقرأ أنا هذا التاريخ ولو باختصار شديد، حتى يصبح من الممكن بيان أوجه اعتراضي على طريقة سعدالدين ابراهيم في رواية هذا التاريخ واستخلاص النتائج منه.
عندما بدأ اتصال العرب بالغرب بقدوم الحملة الفرنسية الى مصر منذ قرنين، كان العرب يعانون من حكم عثماني ظالم ومتخلف وشديد الوطأة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. لم يكن العرب يعانون من أي عيب طبيعي في دينهم أو عقليتهم أو اخلاقهم أو ثقافتهم أو لغتهم، يمنعهم من النهضة، وان كان في ظروفهم السياسية والاقتصادية وتاريخهم القريب، وموقعهم الجغرافي بالنسبة الى أوروبا، ومطامع انكلترا وفرنسا فيهم، ما يضع عراقيل جسيمة في وجه هذه النهضة. ومع كل هذا كانت هناك، في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، بوادر كثيرة للنهوض والتقدم، في كثير من البلاد العربية، كان يمكن ان تنضج وتؤتى ثمارها، خصوصاً في ظل الضعف الذي أصاب الدولة العثمانية، لولا قدوم الاستعمار الأوروبي.
نعم، جاء هذا الاستعمار بأشياء طيبة كثيرة، من المطبعة التي أتى بها نابليون، الى فك طلاسم حجر رشيد واللغة الهيروغليفية، الى بناء خزانات واصلاح نظم الري، الى استحضار التكنولوجيا الحديثة التي أمكن بها اكتشاف النفط وغيره من الموارد الطبيعية التي تهم الغرب ولكن كان لا بد من أن يستفيد منها العرب أيضاً، وادخال وسائل الطب الحديث ومكافحة الأمراض، لحماية جنود الدول الاستعمارية ورعاياها ولكن كان لا بد من ان يستفيد العرب من هذا ايضاً... وهكذا... كل هذا صحيح، ولكن كانت حصيلة قرن ونصف القرن من الحكم الاستعماري، أياً كانت صورته، احتلالاً مباشراً كما في مصر والسودان وبقية شمال افريقيا، أو انتداباً كما في شرق البحر المتوسط، أو حماية كما في دول الخليج، غير مرضية بتاتاً ولا تشرف الاستعمار الأوروبي على أي نحو، سواء تعلق الأمر بالنمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة وتطوير الصناعة، أو في ما يتعلق بالتعليم ومحو الأمية، أو بتوزيع الدخل وملكية الأراضي، أو المستوى الصحي لغالبية السكان. أما الديموقراطية فقد ظلت، حتى في أحسن الحالات، صورية وشكلية الى حد كبير على رغم كل ما يقال في الإشادة بالنظام الليبرالي في ما بين الحربين، فقد ظلت حكومات الأقلية هي التي تتبادل حكم البلاد، ولا تترك أي بادرة لاحتمال وصول حزب يتمتع بشعبية حقيقية الى الحكم من دون ان تتدخل الدولة الاستعمارية بالتعاون مع القصر أو مع ملاك الأراضي الكبار الذين ظلوا يسيطرون على الحياة السياسية لمصلحتهم ومصلحة الدولة الاستعمارية.
هل كان يمكن للعرب ان يحققوا نتائج احسن مما تحقق بالفعل، حتى في ظل الاستعمار؟ لا أظن، كان من الممكن ان نتصور تطوراً أفضل بعض الشيء في ميدان التعليم، بجهود اهلية حتى في ظل الاستعمار، وربما ايضاً في ميدان الصحة أو الخدمات الاجتماعية الاخرى، ولكن ليس هناك أي سبب جدي للاعتقاد بأن الصورة العامة للمجتمع والسياسة والاقتصاد كان يمكن ان تكون مختلفة عندما ترك الاستعمار الأوروبي البلاد العربية في منتصف القرن العشرين عما كانت بالفعل. فالاستعمار كان حجر عثرة حقيقية، وليست وهمية في طريق أي تنمية صناعية فاعلة، وأي تقدم حقيقي في التعليم، وأي اصلاح سياسي جدي يجعل للناس العاديين صوتاً في ادارة شؤون بلادهم.
تلت رحيل الاستعمار الأوروبي في منتصف القرن العشرين فترة مدهشة، لم تدم في الحقيقة أكثر من عقدين، هما عقدا الخمسينات والستينات، ولم ندرك إلا حديثاً كم كانت هذه الفترة قصيرة، وكم كانت استثنائية. ولكننا كنا في اثنائها نظن انها هي التي تمثل المستقبل وانها هي التي تعبر عن "اتجاه التاريخ". نحن ندرك الآن كما كنا مخطئين في هذا. فعندما ننظر الان الى فترة الخمسين عاماً الأخيرة كلها، أي الى النصف الثاني من القرن العشرين، لا بد من ان نعترف بأن السمة الرئيسية لهذه الفترة، أو احدى سماتها الاساسية، هي حلول الهيمنة الاميركية محل الهيمنة الأوروبية. نعم، كانت هناك الحرب الباردة، وكم شغلتنا هذه الحرب، وكم علقنا الآمال بسببها على امكان تحرير ارادة الشعوب المستضعفة ووقفها على الحياد وعدم اضطرارها للانحياز غرباً أو شرقاً. ولكن ها قد ظهر الآن كم كانت هذه الآمال مبالغاً فيها. فتوازن القوة بين المعسكرين، الغربي والشرقي، لم يستمر في الحقيقة طويلاً، بل وكان "الخطر الشيوعي" والتهديد السوفياتي أقل بكثير، مما كان يحب الاميركيون ان يصوروهما مما يذكّر بشدة بما يقوله الاميركيون اليوم عن خطر الارهاب الاسلامي وتهديده لأمن العالم بأسره. ولم ينتصف عقد الستينات حتى بدأ عصر الوفاق بين المعسكرين الذي وضع حداً حاسماً لقدرة اي بلد من بلاد العالم الثالث على الإفادة من تنافس المعسكرين، في تحقيق التحرر واستقلال الإرادة. ولم تأت الثمانينات حتى اتضح بما لا يترك مجالاً للشك، التفوق الاميركي وانتهاء عصر التهديد السوفياتي الى غير رجعة. بل حتى عندما كانت الحرب الباردة في عنفوانها، كانت قدرة البلاد العربية، وسائر بلاد العالم الثالث، على الافادة من توازن القوة بين المعسكرين، أقل بكثير مما نظن، اذ كانت هناك حدود لاستعداد احدى القوتين العظميين للدخول في عراك حقيقي مع القوة الأخرى بسبب مشكلة من مشكلات العالم الثالث. وعلى أي حال، فقد اقتصر التأثير السوفياتي في المنطقة العربية على مواقع قليلة، وبقيت الهيمنة الأميركية كاملة في معظم البلاد العربية. بل وحتى في تلك المواقع القليلة التي كان للسوفيات فيها وجود محسوس، كما في مصر في الستينات، كانت هناك حدود لقدرة مصر على الافادة من هذا الوجود السوفياتي في علاقتها بالولايات المتحدة، بسبب عجز الاتحاد السوفياتي عن تعويض مصر عن الواردات الغذائية الأميركية، واعتماد مصر بدرجة ملموسة، في أعقاب هزيمة 1967 على معونات عربية تأتي في الأساس من دول وثيقة الصلة وشديدة الاعتماد بدورها على الولايات المتحدة.
دعنا نعترف بصراحة اذاً بأن النصف الثاني من القرن العشرين كان، على الأقل في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية للعرب، هو في الأساس عصر استبدال الهيمنة الأميركية بالهيمنة الأوروبية. قد لا يكون استخدام لفظ "الاستعمار" مناسباً تماماً في الحال الاميركية، ولكن لفظ الهيمنة كاف وملائم كل الملاءمة لوصف الحالين الأوروبية والأميركية. تغير الخطاب الانشائي بالطبع عما كان، فأميركا رفعت شعار القيمة الاقتصادية بديلاً من الشعارات الأوروبية عن التمدن والتحضر. وأميركا الآن ترفع شعاري الديموقراطية ومكافحة الارهاب بديلين من شعاري أوروبا عن حماية الأقليات وإحلال الأمن، ولكن الحقيقة الكامنة وراء كلا الصنفين من الشعارات يجب ألا تخفى على اللبيب ويجب ألا يخفيها أي منصف.
كان هذا هو أيضاً حال معظم دول العالم التي سميت ب"العالم الثالث"، فقد خضع معظمها بعد استقلالها عن أوروبا لهذه الهيمنة الأميركية، ولكن في ما يتعلق بالعرب بالذات، اقترنت هذه الهيمنة الاميركية بشيء أفظع من أي شيء جلبه الاستعمار الأوروبي، ومن أي شيء جلبته الهيمنة الأميركية لأي منطقة أخرى في العالم، وهو غرس دولة اسرائيل في قلب العالم العربي. لست في حاجة لإعادة رواية قضية اسرائيل مع العرب منذ 1948، كيف ساعدت الولايات المتحدة على انشائها، وكيف ساهم الدعم الاقتصادي والعسكري الأميركي لاسرائيل في ضمان استمرار هذه الدولة وتوسعها، وكيف أدت اسرائيل الى تبديد جزء كبير من موارد العرب الاقتصادية، وعطلت تطورهم السياسي ووحدتهم، ومن ثم أضاعت جزءاً كبيراً من عمرهم. وكانت المحصلة النهائية لخمسين عاماً من الهيمنة الأميركية واقامة الدولة الاسرائيلية وتوسعها هي ما نراه الآن من بؤس حال العرب في شتى المجالات، مما يبكي عليه سعدالدين ابراهيم كما نبكي عليه نحن. ولكن في ما عدا اشتراكنا في البكاء، ليس هناك شيء واحد مشترك بيننا وبينه. فهو يزعم ان الذي جلب كل هذا الخراب وضيّع كل هذا العمر الطويل من تاريخ العرب هو العرب أنفسهم، وان اميركا بريئة واسرائيل بريئة، ونحن فقط المذنبون، اما بسبب حكام أفاقين او بسبب سكوتنا على حكام أفاقين. اما نحن، فنقول ما فرغت من قوله حالاً.
نعم، كان من الممكن للعرب ان يفعلوا بعض الأشياء لتحسين حالهم بعض الشيء، حتى في ظل الهيمنة الاميركية ووجود السرطان الاسرائيلي. ولكن الأمر هنا لا يختلف كثيراً عن الحال في ظل الاستعمار الأوروبي. ففي تلك الحال ايضاً كان من الممكن أن تكون حصيلة الاستعمار الأوروبي في منتصف القرن العشرين أفضل قليلاً لو كان اغنياء العرب انفقوا مثلاً أكثر مما أنفقوه على انشاء المدارس، أو تبرعوا بمبالغ أكبر لبناء المستشفيات او كان الاقطاعيون العرب أشد حرصاً على المصلحة العامة... الخ. ولكن كل شيء يدل الى أن المحصلة النهائية لقرن ونصف القرن من الاستعمار الأوروبي لم يكن من الممكن أن تكون أفضل بدرجة محسوسة مما حدث بالفعل. فقد كان الفشل في آسيا كما في افريقيا، كما في اميركا اللاتينية مع اختلاف الظروف والثقافات، في ما عدا ظاهرة الاستعمار، وأسباب الفشل دائماً تعود الى سبب واحد أعظم: وهو ان الدول الاستعمارية الأوروبية كانت على استعداد لأن تفعل المستحيل وترتكب أكبر الفظائع لتعطيل التصنيع وتعطيل النمو الديموقراطي وتعطيل نمو الأنواع المطلوبة من التعليم والثقافة وتعطيل التعاون أو الاتحاد بين عدد من البلاد المستعمرة والتواقة الى الاتحاد، بما في ذلك طبعاً البلاد العربية. وهكذا كانت الحال بالضبط في ظل الهيمنة الأميركية. الولايات المتحدة واسرائيل على استعداد لأن تفعلا المستحيل من أجل تخريب التنمية، وتعطيل التطور الديموقراطي ووضع العراقيل في وجه اصلاح التعليم والثقافة وفي طريق تحقيق أي صورة مجدية للتعاون العربي أو الوحدة العربية.
يؤيد هذا الاستنتاج ان العرب مثل غيرهم من الأمم كانوا يثبتون قدرتهم على التقدم في مختلف الميادين بمجرد ان تتاح لهم ظروف دولية مؤاتية. حدث هذا مرة في عصر محمد علي ومرة في عصر عبدالناصر. ولكن الفترتين كانتا للأسف قصيرتين للغاية، فلم تدم في عصر محمد علي أكثر من ثلاثين عاماً، بأقصى تقدير 1810 - 1840 ولم تدم في عصر عبدالناصر، بأقصى تقدير أيضاً على 11 عاماً 1956- 1967. كان التقدم في مختلف الميادين، الاقتصاد والتعليم والثقافة والاصلاح الاجتماعي، مدهشاً بكافة المقاييس. فما الذي حدث بعد أن بدأت الولايات المتحدة تمارس قبضتها القوية؟
باختصار شديد: العرب اليوم في حال سيئة جداً. لا جدال في هذا. وفي مختلف المجالات: السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم... الخ. ولكن لا شيء في طبيعة العرب ولا في عقليتهم ولا في دينهم ولا في أخلاقهم يفسر هذه الحال. وانما أقرب التفسيرات إلى العقل هي الاستعمار الاوروبي مرة، والهيمنة الاميركية مرة، والوجود الاسرائيلي بدعم من هذا الاستعمار وتلك الهيمنة. نعم، العرب ارتكبوا أخطاء كثيرة، ولكن ليس أكثر مما ارتكبته شعوب أخرى كثيرة. وتصحيح الاخطاء في ظل الهيمنة والخضوع لقوة عاتية أصعب بكثير من تصحيحها في ظل الحرية والاستقلال الحقيقي. نعم، صبر العرب على حكام فاسدين لأطول من اللازم. ولكن المسؤولية تقع في الأساس على من جلب هؤلاء الحكام الفاسدين في الأصل ودعمهم ولا يزال يدعمهم بالسلاح والأموال، على رغم كل التظاهر بعكس ذلك.
نعم، كان هناك، حتى في ظل هذا الوضع المظلم، الكثير من الاصلاحات التي كان يمكن عملها، ولكنها اصلاحات هامشية لم يكن من الممكن أن تغير الصورة الشاملة، فضلاً عن أنه في ظل مناخ عام من الاحباط الذي تخلقه هذه الصورة الشاملة، من الصعب أن نطلب من أحد أن يظهر حماسة لاصلاحات صغيرة هنا وهناك، اذ سيستمر اليأس من ألا تسفر هذه الاصلاحات الصغيرة هنا وهناك عن أي تقدم حقيقي في أحوال الناس، وسيظل الاعتقاد راسخاً بأنه حتى إذا أسفرت هذه الاصلاحات الصغيرة عن تقدم حقيقي في أحوال الناس، فالدولة المهيمنة، هي أو اسرائيل أو كلاهما، كفيلتان بإعادة الأوضاع الى ما كانت عليه من سوء.
والسؤال الآن هو: لماذا لا يشعر سعدالدين ابراهيم بهذا الاحباط الذي نشعر به من الصورة العامة الناتجة عن الهيمنة الاميركية والوجود الاسرائيلي؟ ألا يرى في هذه الهيمنة ما يغضبه ويثير اعصابه؟ ربما كان هذا هو التفسير، فها هو مقال يتناول كل شيء من احوال العرب، سياسية واقتصادية وثقافية، ومنذ ايام الحملة الفرنسية على مصر في اواخر القرن الثامن عشر وحتى اليوم، ولكنه لا يحتوي على عبارة نقد واحدة للسياسة الاميركية او اسرائيل، او جملة واحدة يمكن ان تسيء الى الولايات المتحدة او تغضب اسرائيل. المسؤولية كلها على العرب: حكاماً ومثقفين.
انظر مثلاً الى الفقرة التالية:
"الحالات الثلاث المذكورة اعلاه العراق وفلسطين والسودان هي نماذج درامية لصراعات ملتهبة وممتدة... ومضى على كل منها ما لا يقل عن ثلاثين سنة من دون ان يحسمها العرب حرباً او سلماً على رغم استنزافها مئات الآلاف من الارواح وملايين من الدولارات، وعلى رغم تعطيلها مسيرة التنمية والتقدم والديموقراطية في بلدانها، بل في كل الوطن العربي. ان تفجير الصراعات الممتدة والملتهبة قد لا تكون من مسؤولية الانظمة العربية الحاكمة وحدها، وقد لا يكون المثقفون العرب مسؤولين عنها اصلاً. لكن مسؤولية الحكام اصحاب القرار ومسؤولية المثقفين اصحاب الافكار هي في استمرار هذه الصراعات، وكأن لهم مصلحة في استمرارها، او كأنهم عاجزون عن مواجهة شعوبهم باستحالة حسمها حرباً، وعاجزون عن مصارحة شعوبهم بضرورة قبول الحلول الوسط التي تنطوي على مصالحات تاريخية بين الاطراف المتصارعة".
كيف نترجم هذه الفقرة الى كلام مفهوم وصريح وواضح؟ لا اميركا ولا اسرائيل تذكر بالاسم. العلاقة بين الولايات المتحدة وصدام حسين لا تذكر بتاتاً، بما في ذلك دعمه بالسلاح والسكوت عليه لاكثر من ربع قرن وتأييد غزوه لايران والسماح له بغزو الكويت على رغم ان الامر لا يعني اميركا، ثم ضربه لاخراجه من الكويت بعد اقتطاع الثمن المناسب من دول الخليج، ثم السكوت عليه مرة أخرى لاكثر من عشر سنوات بينما كان التخلص منه ممكناً وسهلاً من دون حرب او احتلال، ثم التدخل بحجج واهية عندما اصبح التدخل ملائماً لمصلحة الولايات المتحدة واسرائيل. هذا عن العراق. اما عن السودان فلا كلمة واحدة تذكر عن دور اسرائيل في استمرار الحرب الاهلية وتقوية شوكة الجنوب مساهمة في تمزيق السودان وامعاناً في تفريق العرب وخلق قاعدة لاسرائيل عند منابع النيل، مما كشفت عنه بما لا يدعو للشك وثائق أفرج عنها حديثاً من وزارة الخارجية البريطانية. ناهيك عن فلسطين التي يبدو وصف مأساتها، سواء في تفجيرها ابتداء او استمرارها، وكأن المسؤول عنها هم الحكام العرب اصحاب القرار والمثقفون العرب اصحاب الافكار اقرب الى العبث منه الى الكلام الجاد.
ما الذي يمكن ان يقصده الكاتب بالحديث عن "عجز" الحكام العرب عن حل الصراعات؟ ما الذي كنت تنتظره يا دكتور من حاكم عربي كصدام حسين حكم العراق لمدة تزيد على ثلث قرن بدعم الولايات المتحدة وتأييدها؟ واذا كانت إزالة حكمه سهلة الى هذا الحد، كما تبين منذ شهور قليلة، فلماذا لم تفعل الولايات المتحدة او اسرائيل ذلك في وقت مبكر قليلاً؟ هل كنت تنتظر يا دكتور ان يكون صدام حسين هو الذي يحل مشكلات العرب ويحقق لهم آمالهم في التنمية والتقدم والديموقراطية ثم خاب أملك فيه، وهذا هو سبب ما يبدو في مقالك من غضب شديد؟ ام ان المسألة كلها تمثيل في تمثيل؟ وماذا عن بقية الحكام العرب الذين يتمتع معظمهم برضا ودعم اميركا لعشرات من السنين؟ هل فوجئت ايضاً يا دكتور بعجزهم عن حل مشكلات العرب ما اثارك الى هذه الدرجة ودفعك الى كتابة هذا المقال الناري؟ ام انك كنت تعرف حقيقتهم طوال الوقت ولكن لم يكن من المناسب لك ان تتكلم؟ وما هي هذه الحلول الوسط التي قدمتها اميركا وقبلتها اسرائيل ورفضها الحكام العرب وشجعهم المثقفون العرب على رفضها؟ من الذين عطّل قبول كل الحلول الوسط والاسوأ من الوسط من مبادرة روجرز في 1970 وحتى اتفاق اوسلو سنة 1993، بين الفلسطينيين واسرائيل بتأييد اميركي كامل ام مجرد "عجز الحكام العرب" وتشجيع المثقفين لهم؟ هل قدمت اسرائيل شيئاً يمكن قبوله ورفضناه، ام ان كل شيء مما يمكن قبوله او لا يمكن قبوله طرحه الاميركيون والاسرائيليون ثم سحبوه، واقترحوه ثم عارضوه، فأدخلوا العرب في دوامة دوّختهم وانهكت قواهم حتى صاروا الى ما تراه من يأس تام؟
وما الذي تقصده بالضبط ب"مسؤولية المثقفين العرب"؟ وعلى من تضحك وممن تسخر؟ هل تسمع للمثقفين العرب المساكين صوتاً، او هل استمع لهم احد منذ عشرات السنين، بما في ذلك فترة الثلاثين عاماً الذهب التي عادت فيها مصر الى الحظيرة الاميركية وما زالت فيها حتى الآن؟
لا اميركا ولا اسرائيل تذكرهما بكلمة سوء واحدة، وانما تستل سيفك وتحرك عضلاتك في مواجهة حكام عرب بائسين وقليلي الحيلة، ومثقفين عرب اكثر بؤساً واقل حيلة. فلماذا لا تشهر سيفك وتحرك عضلاتك في وجه المذنبين الحقيقيين؟ وما معنى هذا التهديد الذي توجهه الى الحكام والمثقفين العرب الذين تعرف جيداً انهم ليسوا في وضع يسمح لهم بالانصياع الى كلامك؟ تقول لهم بأعلى صوت: اصلحوا من احوالكم والا كان عليكم ان تقبلوا قيام الولايات المتحدة بهذه المهمة؟ لا يا شيخ؟ انت تعرف ان الاحوال لا تنصلح لان الولايات المتحدة لا تريد ذلك، وانت تعرف ان هؤلاء الحكام العاجزين عن الاصلاح يتمتعون بسبب هذا العجز نفسه، برضا الولايات المتحدة ودعمها، ولو كانوا اقل عجزاً لتخلصت الولايات المتحدة منهم منذ زمن طويل فما جدوى هذا التهديد اذاً؟ ام ان الفرصة فقط مجرد تسهيل المهمة على الاميركيين اكثر واكثر، واسكات الاصوات المزعجة التي تعكر صفوهم وهم يدخلون بلادنا مستعمرين سافرين كما لم يحدث من قبل في تاريخ الاستعمار؟ هل وصلنا اذاً، بمثل هذه المقالات الى حال يقال لنا فيها: انتم من الوضاعة وسوء الحال حيث لا يصلح معكم الا الاستعمار، بل والاستعمار في اسوأ صوره؟
ولكن لماذا نأتي بالكلام من عندنا، ولا نقتطف مباشرة من كلام سعدالدين ابراهيم؟ ها هو يقول: "لم تعد القوى الكبرى في النظام العالمي تطيق انظمة مستبدة معادية او مستهترة بمصالحها. لقد انتهت الحرب الباردة التي كان احد قطبيها يقدم الرعاية أو الحماية لبعض الأنظمة المستبدة مهما بلغ استبدادها الداخلي أو عبثها الاقليمي". ما أشد هذا التعاطف مع هذه "القوى الكبرى في النظام العالمي" التي أصبح الاستبداد والاستهتار في العالم يفوق قدرتها على الاحتمال! ولكن لماذا يا ترى لا تسمى هذه "القوى الكبرى في النظام العالمي" باسمها، خصوصاً أنها دولة واحدة ولم يعد هناك من يشاركها؟ ولماذا لا تشير، ولو اشارة خاطفة، إلى تاريخ هذه الدولة الكبرى في تأييد الاستبداد والاستهتار بدورها، وفي دعم "العبث الاقليمي"، من اندونيسيا شرقاً إلى تشيلي غرباً، مروراً بإسرائيل بالطبع، صاحبة أشهر قصة في "العبث الاقليمي"؟
ولماذا لا تقتطف أيضاً من كلام سعدالدين إبراهيم عن المثقفين العرب؟ إنه يقول: "هذه المقاومة للتغيير يمارسها مثقفون عرب تحت شعار مقاومة الهجمة الغربية أو مهاجمة العولمة أو دفاعاً عن الثوابت العربية. وهم في ذلك ينسون أو يتناسون أن الذي سهّل قوة الهيمنة الغربية عموماً والأميركية خصوصاً مهمتها في اختراق الجسم العربي، هو سيطرة الجمود العربي السياسي والتحجر الاجتماعي والدروشة الدينية".
ما أخطر هذا الكلام، ولكن ما أسوأه أيضاً. فالرجل ساخط سخطاً شديداً على كل من لا يعجبه ما يفعله الأميركيون اليوم في البلاد العربية أو حتى يتأفف منهم. فهؤلاء ليسوا مثقفين إلا من باب التجاوز من ثم يضع لفظ المثقفين بين قوسين. والذي تفعله أميركا ليس "هجمة غربية"، فيضعها بين قوسين أيضاً، كما يزعم هؤلاء "المثقفون"، بل هي شيء آخر لم يفصح سعد عن كنهه بالضبط، فلعلها مجرد "زيارة" للعراق، أو رداً لزيارة قديمة، أو مجرد محاولة بريئة لتعليمنا أسس الديموقراطية من طريق إلقاء القنابل والضرب بالدبابات. والذين يعترضون على مثل هذا الضرب بالقنابل والدبابات يتكلمون عن مبادئ يسمونها "ثوابت"، ما يعني سخرية استاذ علم الاجتماع الكبير، فيضع "الثوابت" بين قوسين أيضاً. فلعله إذاً يعتقد أن الثوابت الحقيقية هي الضرب بالقنابل والدبابات وليس التحرر من الاستعمار أو مقاومته.
على أي حال، لا يدري من يقرأ ما كتبه سعدالدين إبراهيم أيهما أفضل: الموت بالجمود والتحجر والدروشة، أم الموت بقنابل الأميركيين ودبابات الإسرائيليين؟ إنه، في ما يظهر، يفضل الموت بقنابل الأميركيين، لأنه على الأقل، يتم على يد دولة عظمى ديموقراطية.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.