لا يحمل محمود عباس حلاً مثالياً. ولا يحمل حلاً مضموناً. وربما لا يحمل حلاً على الإطلاق، لكنه يشكل بالتأكيد فرصة للعودة الى البحث عن حل وفرصة فلسطينية للاحتماء لبعض الوقت من جرائم شارون والخلل الفاضح في موازين القوى في عالم ما بعد 11 ايلول سبتمبر وما بعد اطاحة صدام حسين. لهذا بدا الرجل كأنه دواء مرّ بالنسبة الى بعض الفلسطينيين وسم قاتل للبعض الآخر. لكنه رجل سيء الحظ. تباينت حسابات الأطراف لكنها التقت عملياً على استنزافه وهو الذي كان يحتاج الى بناء رصيده لا الانفاق منه وهو قليل اصلاً في ميادين الشعبية والحضور في المؤسسة العسكرية والأمنية ولعبة إمساك الأوراق. استنزفته الولاياتالمتحدة بحب علني أرعن ساهم في تصوير وصوله وكأنه كسر للإرادة الفلسطينية. وتحول الحب الأرعن قاتلاً حين لم تترجم واشنطن عواطفها المشبوبة ضغوطاً سريعة على شارون ليدشن أبو مازن عهده بمكاسب فعلية تدعم حجته لدى شعبه وأمام "حماس" و"الجهاد" وفي مواجهة مهندس الأفخاخ في "فتح". واستنزفته حين اختارت تنصيبه على ركام هالة ياسر عرفات. واستنزفته اسرائيل حين فرضت قواعد اللعبة وأولها ان الطريق الى "خريطة الطريق" يمر حكماً بحرب أهلية فلسطينية، وحين تبين ان أبو مازن لا يحمل مشروع حرب من هذا النوع اعتمدت حكومة شارون سياسة استنزافه واحراجه. وقد تكون رغبت في قطع الخيط الذي أعاد وجود أبو مازن نسجه بين السلطة الفلسطينية والبيت الأبيض. ولأن رقصة التانغو تحتاج الى اثنين كانت مأساة عباس اضطراره الى الرقص مع شارون الذي يكفي مجرد التفاو ض معه الى استنزاف رصيد المفاوض الفلسطيني. لم يطق ياسر عرفات رهان العالم على أبو مازن، فيما يعيش هو أسير مكتبه في المقاطعة. شعر بظلم فادح. فتح "الختيار" ترسانة الأوراق التي يبرع في تحريكها في زعامة "فتح" والمنظمة والسلطة. بدأ الرئيس حرب استنزاف ضد "الرجل الثاني". خرجت خناجر الرفاق الى العلن وتحول حكم المئة يوم الى عهد الكمائن. لم تستسغ "حماس" وصول أبو مازن. نجاحه يعني افشال برنامجها وتأكيد خطأ "عسكرة" الانتفاضة. نجاحه يعني اسقاط خيار "الحرب المفتوحة". اعطته مضطرة هدنة مشروطة وملتبسة وموقوتة. وحين واصلت حكومة شارون جرائمها ردت بعملية التفجير في القدس. صعّد شارون سياسة الاغتيالات وبدت حكومة أبو مازن منهكة من شدة النزف. بخلت الولاياتالمتحدة على عباس بالضغوط الضرورية على شارون لظهور نتائج. بخلت عليه حكومة شارون بأي انسحابات جدية أو هدايا من نوع اطلاق الأسرى. بخل عليه ياسر عرفات حتى بهدنة في حرب الصلاحيات ومرجعية الاجهزة. بخلت عليه "حماس" بقرار من قماشة وقف العمليات الانتحارية مهما صعّد شارون اساليب الاستفزاز والاستدراج. كان الرجل يحتاج الى بناء رصيد واذا به منذ الساعة الأولى في خضم حرب استنزاف لا ترحم. لم يكن امامه غير ما فعله. ما بعث به الى ياسر عرفات لم يكن مجرد كتاب استقالة. أعاد اليه كرة النار التي تسلمها يوم صار رئيساً للوزراء. أعاد كرة النار ايضاً الى "حماس" التي استهدف أمس مؤسسها وأدرج الاتحاد الأوروبي جناحها السياسي على لائحة الارهاب. اعادها ايضاً الى الولاياتالمتحدة التي تتخبط في الفخ العراقي الذي نصبته لنفسها. وأعادها الى شارون الذي يجيد القتل ولا يجيد الحل. أوقف عباس حرب استنزافه وأعاد الكرة الى من استنزفوه لأسباب مختلفة. فماذا يفعل عرفات بكرة النار؟ وماذا تفعل "حماس"؟ انها ساعة الخيارات المؤلمة. فالانتصار على عباس باهظ الثمن تماماً كما ان انتصاره مكلف جداً.