عُدّ الأمر انقلاباً في الموقف الأميركي أو تحولاً حاسماً. فالولاياتالمتحدة التي أمعنت، منذ بدء مغامرتها العراقية في طورها الديبلوماسي ثم في طورها العسكري، في تجاوز الأممالمتحدة وامتهانها، بل سارعت تعلن وفاتها على لسان بعض دهاقنة "محافظيها الجدد"، عادت إلى المنتظم الأممي تلتمس إشراكه في إدارة ورطتها العراقية، في خطوة تبدو أشبه بطلب النجدة. والخطوة تلك باتت رسمية، منذ أن صادق عليها الرئيس جورج بوش يوم الثلثاء الماضي، ومنذ أن تقدم وزير الخارجية كولن باول بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، للمناقشة وللتصويت، مرتضياً العودة إلى التفاوض مع بلدان أبدت أشد الاعتراض على الحرب الأخيرة، شأن ألمانيا وفرنسا وروسيا. في الأمر إذن إقرار، وإن ضمني، بالإخفاق، بعجز القوة العظمى الوحيدة عن أن تجترح من انتصاراتها العسكرية الخاطفة أنصبة قابلة للحياة، حتى في حالة احتلال مباشر كذلك القائم في العراق، قوامه 140 ألف رجل ناهيك عن القوات الحليفة، وبقصورها عن أن تشكل من بلدان من قبيل هندوراس وميكرونيزيا وألبانيا أحلافاً تقوم مقام تلك التي يمكنها أن تتأسس بين قوى تتمتع ببعض الوزن وهذا مقاييسه أبعد عن أن تكون كمية صرفاً وتحظى بقدر من تمثيلية. لقد اختبرت الولاياتالمتحدة في مغامرتها العراقية الأخيرة نظرية مفادها أنها في حل من كل تعاون، وأنها بلغت من السطوة ما يجعل تحالفاتها تستمد القوة منها حصراً، وأنها قادرة على ابتعاثها من عدم، وأنها ليست في حاجة إلى أية قوة متوسطة، على صعيد إقليمي أو دولي، ويبدو أن النظرية تلك قد ثبت بطلانها، أقله حتى اللحظة. نتيجة كل ذلك لا قِبَل للولايات المتحدة بتحمل أعباء احتلال العراق، لا مالياً ولا بشرياً، ناهيك عن أعباء إعادة البناء، وأنها قد عادت إلى العالم تطلب منه النجدة. من المرجح ألاّ تجد الإدارة الأميركية مشقة في الحصول عما تريده من مجلس الأمن، وفي استصدار القرار الذي تبتغيه، بما في ذلك اشتراطها أن تبقى لها الأرجحية في العراق وأن تظل القوات الأممية المُزمع إنشاؤها تحت قيادتها. إذ أن المصاعب التي تواجهها الولاياتالمتحدة في العراق، من أمنية وتسييرية وسياسية، مهما بلغت من الضخامة ومهما كان وقعها على الصعيد المحلي، لا تمس جوهر موازين القوة على الصعيد الكوني، ذلك الذي يبقى بيّن الرُّجحان إلى صالح القوة العظمى الوحيدة، وذلك ما تعيه دول العالم، أقله تلك "المسؤولة"، أي سوادها الأعظم. وما يأخذه العالم على الولاياتالمتحدة، في عهد إدارة الرئيس بوش الحالية، ليس الاضطلاع بدور القيادة على الصعيد الكوني، فالدور ذاك، على العكس من ذلك مرحب به، بل هو الانقلاب على العالم والسعي إلى الانفراد بمقدراته، وامتهان دوله وهيئاته الناظمة قراراً وتشريعاً. وهكذا، إذا ما لاح سعي واشنطن إلى العودة إلى الأممالمتحدة بمثابة العود عن غيّ الانفراد والأحادية إلى رشد القيادة التي تضبطها ضوابط سياسية وقانونية، تحد من غلوائها ومن جموحها، فمن المرجح أن يستجيب العالم. خصوصاً أن فشل الولاياتالمتحدة في العراق يبقى نسبياً. صحيح أن العنف، ما كان منه فعل مقاومة أو ضرباً من الاقتتال الأهلي المواجهات بين الأكراد والتركمان مثلا أو أعمال تخريب نسف المنشآت والمرافق العامة أو جرائم سياسية شأن اغتيال الشيخ محمد باقر الحكيم، قد رفع كلفة الاحتلال الأميركي، مالياً وبشرياً وسياسياً، وحال دون استتبابه، لكن العنف، في صيغه الراهنة وكما يتبدى حالياً، يزيد من الحاجة إلى الوجود الأميركي، عوض أن يلغيها. فالكل يعلم، دول الجوار أولاً ولكن بقية العالم المعني بتلك المنطقة أيضاً، بأن وضعاً عراقياً كذلك المعلومة مواصفاته، لا سبيل إلى التعاطي معه، حدّاً من مخاطره، تفككاً داخلياً وعدوى اضطراب يستشري ليصيب المنطقة برمتها، إلا بواسطة الولاياتالمتحدة ومن خلالها، فهي التي تمتلك الإمكانات العسكرية والاقتصادية والإرادة السياسية للنهوض بأعباء تلك المهمة، وإن تعذر عليها ذلك بمفردها. وما كان، في هذا الصدد، حاجة ماسة في البلقان مثلاً، هو بالتأكيد في العراق حاجة أمسّ. هل كانت الولاياتالمتحدة تتوهم بأنها قادرة على معالجة الحالة العراقية خارج إرادة العالم، بحلفاء من مصاف ألبانيا وميكرونيزيا؟ لا شك في أن عمى القوة قد زيّن لها ذلك، وأن واقع الأمور ومجرياتها على الميدان قد خيبت آمالها أو حساباتها تلك. لكن ما لا شك فيه كذلك، أنها قد نجحت في وضع العالم أمام الأمر المقضي، من خلال حربها الانفرادية واحتلالها الأحادي، وأنه بوسعها الآن أن تبتز العالم بالفوضى العراقية، وبمخاطرها الجمة، بمقدار ما هي ضحية مثل ذلك الابتزاز، من جانب المقاومة العراقية وشتى مظاهر الفلتان الأخرى، بل وبأشد منه. وهكذا، إذا كانت حالة الفلتان العراقي واستحالة السيطرة عليها قد أعادت الولاياتالمتحدة إلى العالم، إلتماسا لمساعدته ولدعمه، فإن حالة الفلتان تلك هي التي ستدفع العالم إلى أن يلوذ بالولاياتالمتحدة، يمنحها السند وربما الشرعية لاحتلالها، خوفاً مما يحفل به الوضع العراقي الراهن من عناصر الاضطراب، وهي، موضوعياً والحق يقال، كثيرة ومُنذرة. والواقعة تلك تشير إلى عاهة أساسية في المقاومة العراقية، تتمثل في أن المقاومة تلك لم تستطع حتى الآن أن تميز نفسها عن مجرد الفوضى والاضطراب الأمنيين، وفي أنها لم تمتلك حتى الآن وجهاً وهوية سياسيتين تخاطب العراقيين والعالم من خلالهما وبواسطتهما. صحيح أنها قد نجحت في جعل الاحتلال الأميركي واستتبابه شأناً متعذراً أو بالغ الصعوبة، ولكنه، حتى اللحظة، ضرب من نجاح سلبي، إن صحت فيه هذه الصفة. وما يجعل "المقاومة العراقية"، جهادية إسلامية كانت أم من فلول النظام السابق، ضحية نجاحاتها، أنها خرساء سياسياً، لا تنطق إلا بالعنف، وفاعلة ميدانياً، ولا يوجد لا في خرسها ذاك، ولا في فاعليتها تلك خصوصاً عندما تأخذ شكل اغتيال محمد باقر الحكيم أو نسف مكاتب الأممالمتحدة وقتل سيرجيو دي ميلو، ما من شأنه أن يطمئن حتى عتاة المعترضين على الحرب والاحتلال الأميركيين، بل في ذلك، على العكس، ما يجعل ذلك الاحتلال يبدو شراً لا بد منه في نظر الكثيرين، إذا كان البديل منه عودة صدام حسين، أو سيناريوات تراوح بين الأفغنة والصوملة واللبننة، والطلبنة نسبة إلى طالبان، أو كلها مجتمعة. لعل تلك هي أكبر مشكلة تواجه العراق على طريق انعتاقه، وأهم ورقة في أيدي الأميركان: ان استعادة استقلال البلد وسيادته يتولاها إما سياسيون لا تدعمهم مقاومة، أو مقاومة لا تسندها سياسة، تنخرط بواسطتها في هذا العالم...