يتضح الآن أكثر من أي وقت مضى أن الأميركيين يواجهون ظرفاً يتسم بالتعقيد والصعوبة وعلى نحو يدعو الى الاعتقاد، وان لم يكن الجزم، بأنهم لم يكونوا قد توقعوا شيئاً من هذا القبيل، عندما كانوا يلوحون بزمن رخاء وسعادة وحرية، سيعيشه العراقيون بعد رحيل صدام حسين. المعطيات المتحققة على أرض الواقع تشير الى ان كسب رهاني السلام ثم الاعمار، يبدوان أكثر صعوبة وأشد خطورة من اسقاط صدام حسين، فالأمن يعاني من الفلتان في مناطق عدة. والأزمات الخانقة على مستوى الكهرباء والوقود والغاز وأمور كثيرة أخرى، وضمور الأمل بتشكيل حكومة وفاق وطني. وتكاثر أخطاء الجنود الأميركيين وخصوصاً على صعيد التعامل مع العراقيين وما يترتب على هذه الأخطاء من ردود فعل مقابلة تتسم بالعنف والشد العصبي. كلها مشكلات، أخذت تتفاقم وتتفاعل مع مشكلات البطالة وتدهور المستوى المعيشي، وعلى نحو يجعل التكهن باحتمال تطور الموقف الى المجابهة العلنية، قضية واردة، خصوصاً ان ذلك يتزامن مع بلبلة واضحة في طروحات بعض المحسوبين على الأميركيين، حيث بات الخطاب السياسي لجماعات تنتمي الى خيمة الائتلاف، باهتاً فاتراً، يكثر من ترداد عبارات الشتم والسب... في اطار من سعي حثيث للتنصل من كل الذي جرى. فإذا كان للنجاح أكثر من أب، فإن للفشل أباً واحداً، وهكذا يتبرأ الكثيرون من نتائج السياسة التي اتبعت منذ الاطاحة بصدام حسين، لتقع على عاتق الأميركيين بالكامل. وهكذا تفعل قوى دولية عدة. فحلفاؤها يقولون: ان الولاياتالمتحدة الأميركية تعمدت بعد سقوط صدام حسين، اغلاق الباب في وجه أي دور للأمم المتحدة أو لأي دولة أخرى باستثناء حليفتها المخلصة بريطانيا. وقد قبل العالم مكرهاً التعامل مع القرار 1384 الذي كرس احتلال العراق. ولا يشفع لها ما تحاوله الآن على صعيد دفع الأممالمتحدة والدول الحليفة للمساهمة معها سياسياً وأمنياً، على رغم ان البعض يصف ذلك بأنه محاولة "توريط" للأمم المتحدة والدول الحليفة والصديقة. ومهما يكن من أمر فإن مراجعة سريعة لما فعلته أميركا في العراق، يكشف وعلى نحو واضح، الأسباب التي أدت الى الوضع الراهن. والمؤسف حقاً، ان الولاياتالمتحدة الأميركية لم تعمل فقط على اسقاط النظام العراقي السابق، بل تعمدت الغاء الدولة العراقية والعودة بالعراق 80 عاماً الى الوراء مع محاولة خلق عوامل تمزق وتشتت اضافية عبر تشجيع الطائفية والتعصب الديني والقومي. هذا الى جانب محاولات جادة بذلتها سلطات التحالف لنزع هوية العراق الوطنية. ان مشكلة العراق الآن لا تكمن في الفلتان الأمني وتدهور المستوى المعيشي وبروز مقاومة لا تزال غير منظمة مع أمل ضعيف يتضاءل يوماً بعد يوم بسبب اصرار المراجع الشيعية على ايصال الأمور مع الأميركيين الى حافة اليأس من احتمال تنفيذ الوعود والعهود، ولا بروز التعصب الطائفي وحسب، بل المشكلة تكمن أيضاً في الإنسان العراقي الذي خرج من تحت حكم غير ديموقراطي ولم يجد مظلة أخرى وطنية حتى لو كانت سيئة. ووجد نفسه ينخرط في أطر جديدة تحت مظلة الولاء للطائفية والقومية العنصرية... وفي اطار أوسع لم يعد سراً ان هناك تقسيمات على الأرض تصنف: سنياً وشيعياً وتركمانياً وكردياً... ليس من غير المعروف القول "ان استمرار هذه الحال وتفاقمها، لا يخدم في النهاية الدولة المحتلة، حيث باتت واضحة تماماً بوادر انقلاب السحر على الساحر"، لذلك بدأت الدوائر الأميركية المعنية، تعمل من أجل اعادة ترتيب الأوضاع في داخل العراق بما يؤدي الى انسدال الستار على مرحلة، ليدشن العراق مرحلة جديدة تتسم بالمعطيات التالية: 1 - اعطاء الأممالمتحدة دوراً أكبر على الصعيد السياسي. 2 - دفع دول حليفة الى ارسال قوات تحل محل القوات الأميركية التي باشرت اعادة توزيع قطعاتها والانسحاب من المدن والتجمع في معسكرات وقواعد ثابتة. ويقدر المسؤولون الأميركيون الفترة اللازمة للانسحاب من المدن ب"45" يوماً. 3 - الاسراع بتحسين الأوضاع المعيشية بإيجاد فرص عمل للعاطلين من العمل... واتباع سياسة أجور تضمن دخلاً معقولاً للمواطن العراقي... مع الاستمرار في العمل بالبطاقة التموينية. 4 - التوسع في اجازة الكثير من شركات الحماية الخاصة، لحماية المنشآت النفطية والمؤسسات الانتاجية الأخرى المهمة والمناطق التجارية والمصارف الأهلية والحكومية والمعابر الحدودية والطرق المؤدية اليها لضمان الاستقرار الأمني. الولاياتالمتحدة الأميركية، تحاول الآن اغراق السوق بأنواع كثيرة من السلع المستوردة... في اطار عدم الخضوع لأي رسوم جمركية بسبب غياب مرجعية السلطة الجمركية... لقد أثار هذا الوضع شهية الكثير من المصدرين الى العراق فبادروا الى تصدير الكثير من السلع والبضائع. ومن أبرز السلع التي صُدرت الى العراق بشكل كثيف في الآونة الأخيرة، المواد الغذائية، المياه المعدنية، المشروبات الغازية، الأجهزة الكهربائية، المولدات الكهربائية، أجهزة الساتيليت حيث تقدر الكمية المستوردة بستة ملايين جهاز، وعدد كبير من السيارات يقدر بنحو ستين ألف سيارة. وعلى ذلك فقد ارتفعت تكاليف الشحن الى العراق بما نسبته 60 في المئة نتيجة ارتفاع نسبة المخاطر وازدياد الطلب وطول مدة الانتظار في تفريغ الحمولات في موانئ العقبة وأم قصر واللاذقية. لقد بات واضحاً ان عملية التصدير الى العراق، لا تسير على طرق مفروشة بالرياحين والورود، بل هي عملية متعبة ومعقدة ومثيرة للأعصاب، بيد انها ذات مردود ربحي مجز، فارتفاع نسبة المخاطر يقابلها دائماً ارتفاع احتمالات الربحية العالية. ومع ذلك فلا أحد يجد في ما يجرى نافذة للخلاص من حال الهبوط الى الأسفل. فما يجرى الآن يقع في اطار ما يصفه الاقتصاديون ب"الاقتصاد التمويني الاستهلاكي العاجل". والسؤال سيظل يطرق أبواب المسؤولين الأميركيين للبحث عن الاجابة... هل سيستتب الأمن والأمان في وقت قريب لتأخذ الخطط والمشاريع الموضوعة مجرى التنفيذ وتتوافر شروط الثقة للاستثمارات واسعة وكبيرة؟ أم أن الأمن بعيد المنال. وبالتالي فإن تكوين المرجعية القانونية والتشريعية بعيد المنال أيضاً. بكلام آخر نقول: ان في العراق الآن سباقاً بين الاندفاع نحو العمل الاقتصادي تصديراً واستثماراً، وبين الوضع الأمني المتردي، جاعلاً العراق يتخبط في فوضى عارمة بكل ما في الكلمة من معنى، والسؤال: هل هذه الفوضى القائمة متعمدة لتفضي الى انحلال مجتمعي، أم ان الإدارة الأميركية عاجزة بالفعل عن اجتراح الصيغة التي تخلق المرجعية وتسهم في استتباب الأمن؟ خبراء الأمن العراقيون يقسمون مسألة الأمن الى قسمين، الأول: المقاومة. الثاني: عمليات السطو والسرقة والسلب والنهب... الخ. يقولون انهم قادرون تماماً في ظرف أقل من شهر على فرض الأمن والأمان عبر تنفيذ مبدأ "سيادة القانون" واحترام النظام العام... ويتعهدون بتنظيف الساحة العراقية من أي مظاهر وظواهر اجرامية ومن أي نوع وفي اطار القانون وحقوق الإنسان. أما بالنسبة للمقاومة فالأمر مختلف... أمرها يحتاج الى تعامل أميركي مباشر وهذا التعامل يقوم على افتراضين: الأول: انسحاب أميركي - بريطاني كامل وشامل من العراق... ولهذا الأمر ايجابيات وسلبيات عدة من وجهة نظر الكثير من العراقيين الذين لا يشاطرون المقاومة وجهة نظرها القائلة بأن اخراج الأميركيين يحل المشكلة العراقية وينهي الأوضاع الشاذة... بل هم يرون الأمر عكس ذلك تماماً... فخروج أميركا في الوقت الحاضر سيؤدي بالعراق الى كارثة مأسوية على كافة الأصعدة... السياسية والاقتصادية والاجتماعية... ويفتح الطريق واسعاً أمام احتمالات حرب أهلية طاحنة. الثاني: أن تفتح أميركا حواراً مع أولئك الذين يقفون خلف المقاومة، فالأمر الذي يدفع الآن "بسهولة" قد لا يعالج بكل "أساليب" القوة والقدرة... ويجد هذا الطرح ما يبرره عندما نسمع ما يقوله رجال المقاومة... فهم يقولون: ان تطور الجانب اللوجستي للمقاومة... وتزايد الود بينها وبين المحيط الذي تعيش فيه الى جانب اتساع هذا المحيط جغرافياً، يجعلها مؤمنة بأن الذراع الأميركية قد تم ليّها علناً... ويوضح أحدهم قائلاً: لقد بدأت المقاومة في مرحلة "نحن هنا..." ثم مرحلة "اضرب واهرب" بعدها انتقلت الى مرحلة "المواجهة..." حيث استطاعت المقاومة الدخول في مواجهات مع قوات الاحتلال تستمر لساعات عدة... ويضيف: نحن الآن نهيئ مستلزمات الانتقال الى "مرحلة الهجوم..." ولا يمكن الدخول الى هذه المرحلة إلا بعد ان يسهم فيها كل أبناء شعبنا في جميع محافظاتالعراق... هناك من لا يجد في هذا الطرح الصدقية الكافية... مؤكداً أن نسبة الذين يوصفون بأنهم "مقاومون...." لا تشكل أكثر من 2 في المئة على اعتبار ان الشيعة يشكلون نسبة 65 في المئة من السكان... وان الكرد يشكلون نسبة 15 في المئة وان أكثر من 15 في المئة من السنّة لا تؤيد عملاً من هذا النوع. وان الصابئة واليزيديين والتركمان والنصارى يشكلون نسبة 3 في المئة.