يقام مهرجان الحرف الشعبية سنوياً في بودابست حيث يلتقي الحرفيون لعرض منتجاتهم ومهاراتهم في منطقة القصر الملكي عند سفح جبل قلعة بودا المطل على الدانوب في وسط المدينة. وقد أصبح تقليداً ثابتاً يستمر خمسة أيام متواصلة بين 16 و20 آب أغسطس بالتزامن مع احتفال جمهورية المجر بعيدها الوطني في 20 آب من كل عام. وهذا العيد يرتبط بتأسيس الدولة المجرية على يد الملك إشتفان 975-1038. ولا يعرض الحرفيون في المهرجان بضاعتهم فحسب بل يصنعونها على مرأى من الزوار، بل ويشركونهم في صناعة بعض الحاجيات التقليدية الشعبية، وهو أمر طريف ومثير لا سيما بالنسبة إلى الأطفال. يمثل هؤلاء الحرفيون مختلف المهن، مثل النقش على الخشب وحياكة السلال والحدادة وصناعة الفخار وصناعة الأدوات الموسيقية والنسيج والتطريز وصباغة الأنسجة وصناعة العجلات والبراميل وصناعة الأثاث والأحذية وصناعة الحلويات والأطعمة الشعبية وغيرها. وتضاف الى هذه الحرف التي لا تزال حية حرف أُخرى انقرضت منذ زمن بعيد مثل مهرجي الأسواق الشعبية والممثلين الشعبيين. وينتظم الحرفيون في جمعيات تشكلت في مختلف الأقاليم المجرية. وتقدم الفرق الشعبية عروضاً مستمرة خلال المهرجان على خشبة المسرح الرئيسي، وقد حضرت أيضاً فرق شعبية من الجزائر وقرغيزيا وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان لتقدم عروضها الرائعة إلى جانب عروض الفرق الشعبية المجرية التي جاءت من أنحاء أراضي المجر التاريخية وتقع اليوم في رومانيا وصربيا وكرواتيا وسلوفاكيا وأوكرانيا بالإضافة الى المجر الحالية. وهناك كذلك عروض الدمى وأغاني الأطفال ورقصاتهم. ويقام في كل مساء ما يسمى ببيت الرقص، حيث يرقص زوار المهرجان والراقصون الهواة والمحترفون الرقصات الشعبية المميزة للأقاليم المجرية. وخلال المهرجان جرى تنظيم بعض النشاطات العالمية، مثل اللقاء العالمي الثالث للحدادين بمشاركة حرفيين من المجر وتشيخيا وفنلندا وفرنسا واليابان والنمسا والسويد وسلوفاكيا. وكان موضوع هذا اللقاء "الحديد المطروق والحدائق". ونظم كذلك مهرجان الحرفيين الذين يصنعون الأدوات الموسيقية، وتضمن معرضاً للأدوات الموسيقية في مبنى الغاليري الوطني الذي استضاف أيضاً معرضاً خاصاً بحياكة البساط الشعبي وصناعة الخزف. صداقة بعد عداوة من العروض المميزة هذا العام مسرحية شعبية تمثل القتال بين الجيشين التركي العثماني والمجري، وقد ارتدى الممثلون ثياباً مماثلة لتلك التي كان الجنود يرتدونها في القرن السابع عشر وامتشقوا أسلحة ذلك العصر من سيوف وحراب وبنادق. وصاحبت العرض المسرحي فرقة موسيقية تعزف موسيقى تعود الى القرن السابع عشر. واستعمل العازفون آلات كانت مستخدمة في تلك الفترة، ونرى فيها التمازج بين الأدوات الموسيقية الشرقية التركية والغربية الأوروبية. وعلى رغم الصراع الذي اندلع بين المجر والأتراك العثمانيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فإن الصداقة بين الشعبين المجري والتركي قوية ومتميزة حالياً لا تضاهيها سوى الصداقة بين المجريين والبولنديين بسبب تاريخهم المشترك على رغم البعد الجغرافي. فقد استقبلت الدولة العثمانية قادة حرب 1848- 1849 المجرية التحررية بحفاوة بعد فشل الثورة ولجوء الكثير منهم إليها، واستقرارهم في اسطنبول ومصر أيضاً. وأصبحت ابنة أُدُن فَينيَش أحد قادة الثورة أول شاعرة باللغة التركية، وهي معروفة للأتراك بإسم نِغار هانم نِغيار بنت عثمان. الربابة والبيانو اجتمع أربعة عازفين ليقدموا قطعاً موسيقية جميلة على الأداة المعروفة باسم "العود الدوار"، وهي ترجمة حرفية للتسمية المجرية لأداة موسيقية انتشرت في أوروبا في القرون السابقة، ولا تزال تستعمل في بعض المناطق مثل فرنسا والمجر. وهذه الأداة عبارة عن وتر واحد مشدود ركبت عليه لوحة للمفاتيح، ويدوّر العازف بإحدى يديه قرصاً يمس الوتر يقوم مقام القوس، بينما يضغط بأصابع يده الثانية على المفاتيح لتغيير الصوت. وقد وصفتُ هذه الأداة في مقال سابق بأنها ربابة شدت عليها لوحة مفاتيح البيانو! ولا تزال مستعملة في الموسيقى الشعبية المجرية حتى الآن. أما الأداة الموسيقية المسماة تْسيتَرا فهي مشابهة لمثيلاتها في النمسا وألمانيا وبعض الدول الاخرى، وتتميز بوجود أوتار يعزف عليها وهي طليقة مثل أوتار القانون وأخرى يجري تغيير أطوالها بأصابع اليد على لوح مقسم مثل تقسيمات الغيتار، وتمخر الأوتار بريشة. ويكثر استعمال هذه الأداة في الموسيقى الشعبية لفلاحي السهل المجري الكبير وترافق بعض رقصاتهم. أضحى هذا المهرجان على مرّ السنين جزءاًَ من معالم بودابست السياحية، يزوره عدد كبير من المجريين والسواح الأجانب على حد سواء، حيث يمكن الاطلاع على الفنون الشعبية الحقيقية وشراء تحف فنية شعبية بعيداً عن البضاعة الزائفة المنتشرة في الأسواق. ويقدم المهرجان دليلاً بارزاً على الاهتمام الذي تلقاه الحرف الشعبية والتراث الشعبي على العموم في أوروبا، وبشكل خاص في المجر التي سبقت باقي الدول في هذا المضمار منذ أواخر القرن التاسع عشر.