نُظم اسبوع باخ العاشر في بودابست بين 4 و13 حزيران يونيو الماضي، وهو مهرجان يحتفل فيه الموسيقيون ومحبو الموسيقى بالفنان الألماني الكبير يوهان سيباستيان باخ 1685 - 1750. واحتل هذا المهرجان خلال السنوات الماضية موقعاً مرموقاً في الحياة الفنية التقليدية للعاصمة المجرية. والجديد في مهرجان هذا العام كان تنظيم ندوة علمية عن باخ وموسيقاه، اشترك فيها باحثون مجريون وأجانب من ألمانيا وأستراليا. ويتميز المهرجان عن غيره من المهرجانات الفنية بأن حضور نشاطاته مجاني، وفي ذلك عودة الى الوظيفة الأصلية لموسيقى باخ، فهي لم تكتب لصالات الموسيقى أو بهدفٍ تجاري بل من أجل تقديمها الى جموع المصلين في الكنائس، أو لتمتع ذلك النبيل أو الملك بها. ومن غير المعتاد طلب أثمان بطاقات دخول ممن يود الصلاة في كنيسة، كما لم يطبع النبلاء والملوك بطاقات دخول. ما السبب في هذا الاهتمام بموسيقى أعظم مؤلفٍ موسيقي في تاريخ الموسيقى الأوروبية، ذاك الذي لا تخلو برامج قاعات الموسيقى من مؤلفاته؟ وما الذي يدفع المنظمين الى إقامة هذا المهرجان؟ يعتقد ممثلو جمعية باخ المجرية والكنيسة الانجيلية البروتستانتية الذين ينظمون المهرجان أن الأعمال التي تقدم في قاعات الموسيقى بشكل متواصل لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من مجموع الأعمال المعروفة لباخ، وبالتالي بات عليهم التعريف بباقي أعماله. وبالطبع يعتبر باخ بالنسبة الى الكنيسة البروتستانتية أهم مؤلف موسيقي منذ ظهور حركة الاصلاح الديني التي أطلقها المصلح مارتن لوثر، ويغلب على موسيقاه الإيمان العميق والخشوع المطلق، وتستعمل الكنيسة أعماله بهذا المنحى. وكان باخ يعتبر موسيقاه وسيلة لخدمة جموع المصلين والتعبد وليست غاية بحد ذاتها، فهو يؤدي واجباً عليه لا أكثر. وهذا هو أحد العوامل التي ترفع من موسيقاه الى مصاف أنبل وأعمق ما أُنتج في تاريخ الموسيقى. ولد يوهان سيباستيان باخ في تورينجيا بألمانيا في مدينة صغيرة اسمها آيزناخ. وعائلة باخ عائلة موسيقية معروفة، وقد هاجر جده الأكبر جد جده فايت باخ من مدينة فسبريم الواقعة في غرب المجر الى ألمانيا في القرن السادس عشر وكان عازفاً على الكمان. شغل باخ العديد من المناصب الموسيقية وعمل في بلاطات الامراء في فايمار وآرنشتات ومولهاوزن وكوتن ثم شغل منصب كانتور كنيسة توماس منشد، أي مدير الموسيقى في مدينة لايبتسج من العام 1723 وحتى وفاته هناك في 1750 بعد أن فقد بصره وفشلت العمليات الجراحية التي أُجريت له. نعرف اليوم حوالى 1100 عمل موسيقي ألفه باخ، بينها قطع موسيقية قصيرة وأعمال ضخمة يستغرق تقديمها ساعات طويلة، مثل اوراتوريو آلام المسيح حسب انجيل متى الذي يتطلب تقديمه فرقتين موسيقيتين وكورسين وجوقة أطفال واحدة رقم BWV 244، حسب تصنيف أعمال باخ، أو القداس الكبير سي مينور h-mol الذي قدم خلال المهرجان في امسيتين. غير أن الكثير من أعمال باخ ضاع بسبب الاهمال، وبسبب عدم اشتهاره كمؤلف عظيم خارج محيط عمله في مدن تورينجيا بألمانيا. وقد عدّه معاصروه عازفاً جيداً على الاورغن لا أكثر، وحصل على احترام كبير بصفته كانتور كنيسة توماس حيث عمل لسبع وعشرين سنة. ومن المؤسف قيام أحد ورثة باخ ببيع جزء من مخطوطات هذا الموسيقار الكبير لبائع لحم استعمل الورق للف اللحم للزبائن في أواسط القرن التاسع عشر. ولم تصل الينا أعمال باخ المتبقية لولا اطلاع الموسيقار فَيلِكْس مَنْدِلسُون-بارْتولْدي 1809 - 1847 على مظروف اللحم صدفة، ومعرفته عبقرية المؤلف بعد قراءة سطر أو سطرين من أعماله، ثم قيامه بشراء كل ورق النوطات من القصاب. عندئذ بدأت شهرة باخ الحقيقية، وكان العمل الذي وجده مندلسون "آلام المسيح حسب انجيل يوحنا BWV245"، أول أعمال باخ التي أُعيد إحياؤها، وقد قابله الموسيقيون بحماس كبير لم يلقه باخ في حياته قط. ومندلسون هو الذي ألف أحد أجمل كونشرتات الكمان. ويعرف عن باخ من الوثائق أنه ألف خمس سلاسل من الكانتاتات خمس سنوات كنسية، لم تصلنا منها سوى ثلاث، ويبلغ عدد الكانتاتات المعروفة اليوم 224 كانتاتا فقط. والسنة الكنسية هي تقويم الأيام الرسمية للكنيسة، كالأعياد مثل الفصح أو الميلاد، وأيام الآحاد حيث ألف باخ الكانتاتات بهذه المناسبات بحكم وظيفته كمؤلف بلاط أو كانتور كنيسة توماس. والكانتاتا هي اسلوب موسيقي غنائي للأصوات المنفردة والكورس مع الاوركسترا بمواضيع دينية أو دنيوية، تمكن باخ من إيصاله الذروة. تبدأ الكانتاتا عادة بكورس، تليها الأغاني المنفردة وفقرات الالقاء الملحن recitativo. وكان باخ يختتم كانتاتاته الدينية بكورال من كورالات مارتن لوثر يوزعها هو باسلوبه الرائع. وبقدر ما كانت الموسيقى التي كتبها باخ بهذا القالب رائعة، كان الشعر الذي اختاره أو فرض عليه، لا فرق رديئاً لدرجة تثير الاستغراب، وضعه شعراء ألمان مغمورون. أعمال باخ صنف عالم الموسيقى الألماني فولفغانغ شميدر 1900 - 1973 أعمال باخ المعروفة بشكل علمي، فوضع "دليل أعمال باخ" الذي يرمز له بالأحرف BMV. ابتدأ شميدر بتصنيف الكانتاتات الدينية والدنيوية التي بلغ عددها 224 كما ورد، تلتها 7 موتيتات هي ما ألّف باخ بهذا القالب الموسيقي، والموتيت هو عمل غنائي للكورس من دون مصاحبة الأدوات، ميز عصور الموسيقى البوليفونية متعددة الأصوات الممتدة من عصر النهضة لغاية انتهاء عصر الباروك. بعد ذلك تأتي القداسات الكنائسية وفي مقدمها القداس الكبير سي مينور، أو h-moll وتصنيفه BWV232، وعمله الجميل ماغنيفيكات. والقداس يؤدى باللغة اللاتينية وأجزاء منه باليونانية ونصه ثابت عادة. ألف باخ كذلك اوراتوريات تروي قصة آلام المسيح حسب الأناجيل الأربعة، فقد منها واحد. ويمكن اعتبار هذه الأعمال "أُوبرا" دينية، يؤديها المغنون المنفردون وهم شخوص الاوراتوريو، والراوي الذي يلعب دور كاتب الانجيل، ويؤديه مغنٍ بصوت الباص الغليظ. ويشتهر كذلك عمله اوراتوريو عيد الميلاد الذي يقدم بكثرة في ذلك الموعد. وجميع هذه الأعمال تؤدى باللغة الألمانية. ألف باخ ايضاً عشرات الكورالات بأربعة أصوات، وقام بكتابة التوزيع الموسيقي للكثير من الكورالات التي ألف نصها ولحنها مارتن لوثر المصلح الديني المعروف، واستعمل هذه الكورالات بشكل واسع في أعماله الدينية. وبرز باخ في تأليف موسيقى الاورغن، وصلنا منها نحو 250 عملاً، اشهرها عمله "توكاتا وفوغا". كما ألف كذلك العديد من المؤلفات لسلف البيانو، الذي يعرف بالانكليزية باسم الهاربسيكورد، وبالألمانية والايطالية تْشَمْبالو وبالفرنسية كلافسان. ويستعمل الألمان عادة كلمة كْلافْيَر Klavier للدلالة على كل الأدوات ذات المفاتيح الشبيهة بالبيانو عدا الاورغن. بين مؤلفاته نجد عدداً من القطع كتبت خصيصاً للفورتَبيانو البيانو الذي اخترع في أوائل القرن الثامن عشر، وقد أزاح البيانو أداة الهاربسيكورد تدريجاً مع افول نجم عصر الباروك بعد انتصاف القرن. والفارق بين الأداتين هو أن أوتار التشمبالو تنقر بريشة فيكون صوتها واهناً رقيقاً، أما أوتار البيانو فتقرع بمطارق صغيرة تحركها آلية معقدة هي التي تعطي عازف البيانو امكان التحكم بديناميكية الصوت. ومن بين أهم أعمال باخ الكلافير المُعدّل Das Wohltemperierte Klavier الذي ثبت أُسس الموسيقى الأوروبية الموحدة الحديثة، باعتماد السلم الموسيقي المعدل الذي يتكون من 12 نصف تون لأدوات المفاتيح بشكل صارم. وكان الموسيقيون قبل ذلك يستعملون السلالم المحلية الخاصة بأدوات المفاتيح المختلفة في مملكتهم أو بمدينتهم، حيث سادت الفوضى في هذا المجال. وفي هذا العمل كتب باخ مجموعتين من 24 قطعة برلوديوم مقدمة مثلت كل السلالم المعروفة، كل صوت من أصوات السلم الاثني عشر بالمقام الكبير وبالمقام الصغير مثلاً دو ميجور أو دو مينور أو c-durأو c-moll . ولم يفوت باخ كتابة أعمال للأدوات الموسيقية المنفردة المختلفة كالعود واسمه بالانكليزية لوت وبالألمانية لاوته والكمان والتشيلو والفلوت، وكتب السوناتات للكمان والكلافير أو التشيلو والكلافير وغير ذلك. واشتهرت كونشرتاته التي ألفها للكمان والاوركسترا، وستة كونشرتات التي عرفت باسم "كونشرتات براندنبورغ" التي تقدم بشكل مستمر في قاعات الموسيقى. ولم يكمل باخ أحد آخر وأعظم أعماله المعروف ب"فن الفوغا BWV1080" والذي بدأ بكتابته في سنواته الأخيرة، ويشير هذا العمل غير المكتمل الى براعة باخ في التأليف بهذا القالب الموسيقي المعقد. والفوغا عمل موسيقي لعدد معين من الأصوات 3 أو 4 أو أكثر، يبدأ الصوت الأول الموضوع من درجة الأساس، يتبعه الصوت الثاني بعد فترة من الدرجة المسيطرة دومينانت وهي النغمة الخامسة نسبة الى درجة الأساس ويسمى بالجواب، وتتوالى الموضوعات المضادة والجوابات المضادة تبعاً لعدد الأصوات لتعطي بناء محكماً ومحسوباً بدقة. ويتكون العمل من 19 قطعة كتبت بنمطين: كونترابُنت وهو اسلوب في تزامن لحنين أو أكثر تتبادل المواقع النغمية الأساس، المسيطرة، الجواب وكانون من العربية القانون وهو قالب خاص من الكونترابنت يدخل اللحن الثاني المماثل للحن الأول من موقع نغمي آخر قبل أن ينتهي اللحن الأول بقليل. وقد انتهى القالبان تقريباً بنهاية عصر الباروك الرصين والوقور الذي دام حتى منتصف القرن الثامن عشر وتلاه عصر الروكوكو الملون اللعوب الذي مثله في الموسيقى موتسارت أحسن تمثيل. ومع ذلك ألف موتسارت وبيتهوفن أعمالاً في قالب الفوغا، واستعملها يوهانّس برامز 1833 - 1897 في ختام الحركة الأخيرة من سيمفونيته الرابعة. غير أن عصر الفوغا الذهبي كان قد انقضى بموت باخ. المهرجان قدم أعمال باخ النادرة ابتدأ الاسبوع بامسية قدم فيها عدد من ال"موتيتات" التي ألفها أفراد عائلة باخ وأشهرهم اولاده كارل فيليب عمانوئيل وفلهلم فريدمان ويوهان كريستيان، وقدم القداس الكبير في امسيتين، وقدمت ثلاث امسيات للاورغن خُصصت امسيتان منها لجزءي "كُتيّب الاورغن"، وامسيتان للسوناتات إحداها للفلوت والتشمبالو، والثانية للكمان والتشمبالو. وخُصصت امسية للكونشرتات، قدمت فيها كونشرتو الكمانين والاوركسترا، وكونشرتو الكمان والاوبو، وكونشرتو براندنبورغ الخامسة، وكونشرتو التشمبالو. وتميزت امسية الكمان المنفرد حيث قدمت بارتيتا الكمان الاولى ومتتابعة الكمان. ويكاد هذا البرنامج أن يكون شاملاً، فقد قُدمت شذرات من مختلف الأشكال الموسيقية التي استعملها باخ عدا الكانتاتات، وجرى التركيز على موسيقى الأدوات التشمبالو والكمان والفلوت، غالبيتها من الأعمال التي يصعب الحصول على تسجيلاتها ويندر سماعها في قاعات الموسيقى، وبالتالي نجح المهرجان في أداء مهمته، فموسيقى باخ ليست قطعة "توكاتا وفوغا" فحسب.