غربت الشمس ومع هذا لم تكن هناك علامة من الأهوار او من القرية التي نقصدها. كان الظلام قد حل حين رأينا شعلة تتحرك من بعيد. اخبرت عشيرة البزون مزيد بن حمدان شيخ العيسى بقدومنا وأرسل هو بدوره جماعة لاستقبالنا عند المغيب. قادونا الى السلف على حافة الهور. كنا نحس بالماء خلف الصريفة اكثر مما نراه. جاء مزيد بنفسه للترحيب بنا، رجل صغير البنية منتصب القامة اظهر مباشرة ما يدل على الاحترام والنفوذ. كان المضيف مضاء بفانوس زيتي، محتشداً برجال يتسلح اغلبهم بالبنادق. نهضوا واقفين حين دخلنا. أرشدنا مزيد الى مكان مقابل الموقد. اثناء تقديمهم القهوة والشاي لنا كان الشيخ يسألنا الأسئلة التقليدية عن صحتنا وعن الرحلة. الكل يجلس منتصباً ساكناً ولم يتكلم واحد منهم. كنا في حضرة عرب الصحراء الرسميين في جلساتهم العامة والمتيقظين لكرامتهم دائماً. تناولنا العشاء اخيراً بعد ساعات من الانتظار، وكان عبارة عن طبق واسع جداً عليه جبل من الرز والسمك .... في سنوات لاحقة رجعت مرات عدة الى مضيف الشيخ مزيد بن حمدان وزرت تجمعات قبيلته. كنت اهرب من الهور في أسوأ شهور الصيف، مستعيراً حصاناً، متنقلاً بين قبائل الرعاة. وهكذا عرفت الغالبية منهم بني لام، البزون، العيسى، البو صالح وآخرون. يعبر البعض منهم الحدود منتقلين الى السفوح الإيرانية حيث يرتفع العشب الجديد مع الشقائق، آخرون ينزحون الى العربية السعودية وأطراف الكويت في الشتاء. يقتاد الرجال والصبيان قطعان الخراف والماعز، بينما تسوق النسوة حميراً محملة بالخيام والأوتاد، السجاد، الأفرشة، صناديق خشبية صغيرة صندقجات، مراجل الطبخ بريمزات، صحون وأباريق. كنت اراهم احياناً يتحركون في سراب خال مثل بحر. بعد الطعام قادنا مزيد الى غرفة قريبة مبنية بدقة من القصف ومفروشة بما اعد لنومنا من افرشة منادر وأغطية لحف، خصوصية غير متوقعة كنا - دوغالد وأنا - في غاية الامتنان للحصول عليها. طوال الليل كان الهواء البارد القادم من الأهوار يهب من ثغرات القصب. كنت استمع الى الأمواج تلطم الجرف وأنا على وشك النوم. حين خرجت فجراً، رأيت على صفحة المياه العظيمة ظلال ارض بعيدة. سواد يتضح بشروق الشمس. للحظة اخذتني رؤيا حفيظ، الجزيرة الأسطورية التي لن ينظر إليها احد من دون ان يفقد حواسه، بعدها عرفت انني كنت انظر الى اجمات القصب العظيمة. يرسو على الضفة قريباً مني قارب رفيع اسود مشرئب القيدوم، مشحوف الشيخ الذي يستخدمه في الحرب، بانتظار ان يأخذني الى الهور. قبل ان تبنى القصور في اور، خرج رجال في الفجر من بيت كهذا، دفعوا قوارب تشبه هذه، مضوا للصيد هناك! كشفت حفريات وولي منازلهم القديمة ونماذج من قواربهم مدفونة عميقاً تحت بقايا سومر. اعمق من دلائل الطوفان نفسها، خمسة آلاف سنة من التاريخ هنا ومع هذا لم تتغير طريقة الحياة كثيراً. لم تغادرني ذكريات الزيارة الأولى الى الأهوار على الإطلاق: النيران تكشف صفحة وجه نصف ملتفت، صياح الأوز، غوص البط من اجل الطعام، صبي يغني من مكان ما في الظلام، قوارب تسير في الممرات المائية، الشمس المائلة الى المغيب تبدو حمراء من خلل الدخان المتصاعد من قصب محترق، ممرات مائية ضيقة تلتف بين القصب لتقود الى الهور. رجل عاد في قارب يمسك بيديه الفالة، بيوت القصب المبنية على الماء، نقيق الضفادع، قوارب عائدة الى البيت في المساء، الطمأنينة والتواصل، سكون عالم لا يعرف المحركات. مرة اخرى انتابني الحنين الى عيش هذه الحياة، ان اكون اكثر من مجرد رحالة يراقب ... ... صعدت الى قارب صغير أُحضر إلي، صعد فالح وابنه الى قاربين آخرين. تقدمنا باتجاه اجمات القصب يتبعنا الباقون. حين وصلنا المياه العميقة ألقى الرجال بالمرادي والفالات في قواربهم وصعدوا اليها ليبدأوا التجذيف بضربات قصيرة وسريعة. في القوارب التي تحمل شخصين كان الاثنان يجدفان في الوقت نفسه وعلى الجهة نفسها. اختفى شحوب النهار الماضي والسماء الآن زرقاء صافية تنتشر عليها هنا وهناك نتف من السحاب الشفيف. المجاذيف ترسم دوائر صغيرة متعاقبة والقطرات المتلألئة تسقط عائدة الى مياه رائعة كانت تبدو باردة جداً. غادرنا المجرى الطيني عند فتحة المجرى خلفنا، وتوغلنا في أجمات البردي الكثيفة التي تنمو في المياه الضحلة. كنا محاطين بالقصب الذي يغطي الجزء الأكبر من مساحة الأهوار الدائمة. عشب عملاق شبيه بالخيزران ينمو بكثافة الى ارتفاع يصل الى اكثر من خمسة وعشرين قدماً. هذه السيقان - المنتهية برؤوس صفراء لامعة - من القوة بحيث يستخدمها الأهواريون لدفع قواربهم المرادي. في ذلك الموسم بدت اجمات القصب التي تحف بجانبي الممر المائي الضيق اخف وأكثر تفرقاً عن بعضها، بقايا من السنة الماضية، صفراء مثل الذهب او رمادية مفضضة عدا قاعدتها حيث يظهر نموها الجديد شديد الاخضرار على ارتفاع اقدام قليلة. اسراب صغيرة من دجاج الماء تنتشر امامنا. تهرب لتختفي بين القصب، طيور الغاق الصغيرة تحط بأجنحتها الساكنة على بقايا القصب، على ريشها قطرات ماء، مفزوعة تغوص او تطير منخفضة على سطح المياه. مالك الحزين يثير ضجيجاً بطيرانه بين القصب الجاف، يحلق وساقاه الطويلتان تتدليان تحته. تزدحم المشاحيف التي كان هناك ما يقارب الأربعين منها. تتدافع في الممر المائي الضيق، او تنتشر في المساحات المفتوحة. يسابق الرجال بعضهم متصايحين ضاحكين. لم اعد قادراً بعدها على تحديد توغلنا في الهور او سيرنا بمحاذاة الضفة لأن القصب احاطنا ومنع الرؤية، والممرات كانت اضيق وأصعب على الخوض. فجأة كنا خارج اجمات القصب عند بحيرة صغيرة هادئة. طار الأوز مطلقاً صياحه عالياً فوق رؤوسنا، جزر صغيرة تنتشر بعضها يمتد لبضع ياردات فقط. بعضها الآخر يغطي مساحات اوسع متصلاً بالنهاية البعيدة من البحيرة، اهل الأهوار يسمون هذه الجزر تهل ومفردها تهلة. قسم منها ثابت في مكانه والقسم الآخر سائب يطوف على المياه. مغطاة بقصب كثيف يمتد مرتفعاً الى ثماني او عشر اقدام، اجمات بردي باسقة، اوراق حادة الأطراف مثل سكاكين، احراش وعدة انواع من نباتات متسقلة، تحت هذا كله بساط اخضر من نباتات متشابكة تلتف على بعضها بقوة، يبدو سطح الجزيرة قوياً ولكنه هش يتكون من طبقة من الجذور والنباتات الطافية. بعد ذلك بسنوات اصبت خنزيراً كبيراً كان يرعى على جزيرة مشابهة أُحرقت قبل ذلك بزمن قصير. كان الخنزير يقف هناك كأنه يقف على ارض صلبة، ولكن حين مررنا بالمكان نفسه بعد ساعة واحدة كانت الجثة قد اختفت: - لا يمكن ان يكون قد قُتل، يبدو انه استعاد قوته وهرب. اجابني واحد من رفقتي: - لا لقد قتلته، غرقت "التهلة" بجثته. ... تتناثر قرية صغيرة اسفل مضيف سيد سروط على ضفة النهر، خيط من الدخان الباهت يمتد على صف من الصرائف. على جانب النهر تقف الجواميس السوداء بهيأتها الوحشية المتجهمة ضخمة الحجوم لزجة الجلد، او تستريح في المياه. تظهر اخطامها وقمم رؤوسها وقرونها المقوسة السميكة. قوارب من مختلف الأحجام ترسو على طول الضفة، او ترقد ملقاة على اليابسة بالقرب من البقايا المتعفنة لقوارب قديمة، ألواحها مخلوعة عن اضلاعها. مجاميع الكلاب المعتادة تنبحنا من مواضعها على حافة المياه. رجل يراقبنا بصمت من مدخل كوخ. قال لي واحد من رفاقي في المشحوف: هيا صاحب، حيه. ناديت بصوت عال: "سلام عليكم". فأجاب الرجل: "عليكم السلام، تفضلوا الطعام جاهز". قلت: "أكلنا الله يحفظك". قال الرجل الجالس خلفي: جيد، عليك ان تتعلم تقاليدنا، تقتضي تقاليدنا كما ترى ان يحيي راكب القارب الواقفين على الضفة، والقارب الهابط مع مجرى النهر جميع القوارب القادمة. أسفل القرية تصطف على الصوب الآخر اشجار الصفصاف التي لا تزال جرداء إلا من لمسة الاخضرار حيث تتفتح براعمها، اغصانها السفلية تنحني غاطسة في المياه الطينية، خلفها اجمات نخيل متروكة ومجموعة من الأكواخ غير بعيدة عنها. يتفرّع النهر هنا مرة اخرى، ونسلك نحن المجرى الصغير الأيمن. حقول القمح والشعير، قرية اخرى، منبسطات طينية ثم حافة الهور وأجمات البردي، مشهد الأمس نفسه. تتبعنا قناة طينية تتلوى بين القصب. مررنا بقوارب عدة عائدة، محملة بحُزم عملاقة من سيقان القصب، للحد الذي لم يكن يبدو من القوارب نفسها سوى حافاتها يقودها رجال وصبيان شبه عراة. اثنان في بعض الأحيان ولكن في الغالب كل منهم في قارب. - حشيش للجواميس. قال الرجل الذي انتدب نفسه لتعليمي. اسمه جحيش تصغير جحش ولم تكن هذه كنيته بل اسمه الحقيقي. للكثير من ابناء العشائر اسماء شديدة الغرابة، وجحيش واحد من الأسماء البسيطة الغرابة! ... مررنا بمكان آخر كانوا يجمعون فيه الحشيش، الكلمة العربية التي تعني العشب ولكنها تستخدم هنا في الإشارة الى براعم القصب المستخدمة كعلف حيواني. صبي يقف عارياً في قاربه يحصد البراعم الخضر بمنجله المسنن ليحزمها معاً والمياه لا تزال تتساقط منها في قارب آخر خلفه. يتقدم مغيراً مكانه لمسافة قصيرة بين الحين والآخر بجذب سيقان القصب القوية بيديه. كنت استطيع الاستماع الى اصوات وضحكات قادمة من وراء ستر الأحراش، صوت صبي، حيوي وواضح، غنى اغنية قصيرة، توقف صاحبي عن التجذيف وأنصت الى الأغنية، قال الآخر بثقة وإعجاب: هذا حسن انتهت الأغنية فنادى رجل آخر: غنّ لنا يا حسن مرة اخرى سيصبح هذا المشهد مألوفاً في السنوات اللاحقة. في بعض الأحيان حين يكون الفصل شتاء والماء قريب من الانجماد والرياح الزمهرير تعصف بالأهوار قادمة من الثلوج الكردية. او في الصيف حيث الهواء المضمخ بالرطوبة او في الحرارة غير المحتملة في انفاق في قاع الظلام. القصب الباسق والبعوض المتراقص في سحابات مدوية الطنين. من النادر كما يبدو ان تحدث في الربيع او الخريف، لأن هذين الفصلين قصيران جداً في هذا الجزء من العالم. لكني، سواء كانت شتاء أو صيفاً، ما زلت أربط الضحكات والأغنية بأجمات القصب حيث يكدح سكان الأهوار في جمع العلف لجواميسهم النهمة. ... لم تمر بنا قوارب اخرى، نسير ببطء وكأننا ننساب على الممرات الساكنة بين القصب الذهبي. لا صوت يُسمع سوى حين يتكلم احدنا، طرطشة المياه الخفيفة تثيرها مرادي المجذفين ووشوشة المياه تحت حيزوم القارب. اخذ الممر بالاتساع تدريجاً ووجدنا انفسنا عند حافة بحيرة صغيرة، تمتد لثلاثة ارباع الميل عرضاً. كانت المياه زرقاء رائقة تحت شعاع الشمس. قال جحيش: سنعبر الى هناك مباشرة لا ريح هنا الآن. اسراب غفيرة من دجاج الماء تستكين على سطح البحيرة، خلفها اسراب بط بعيدة، صعبة التمييز. سحبت بندقيتي لكن البط حلّق طائراً حال ظهورنا من مكمننا بين القصب. قال جحيش: اصبحت وحشية، كان ينبغي ان تأتي الى هنا في الخريف حيث تكون الطيور قد وصلت لتوها، حينها فقط ستتمكن من صيد ما تشاء. لقد صاد فالح الكثير منها في هذا الشتاء. بدا القصب عبر البحيرة مثل ساحل صخري خفيض، بينما ذكرني البعيد منه بحقول الذرة اليانعة. خضنا مرة اخرى بين القصب في الجانب البعيد ولاقينا قاربين كبيرين محملين بقصب يابس، لم يتركا لنا سوى مكان بالكاد يكفي لمرورنا. ... كان المجرى ضحلاً بشكل واضح لأن البردي ينمو بين القصب، ثم بدأ المجرى يتسع. استدرنا على اجمة ناتئة وهناك كانت القرية تستقر على صفاء مشرق يتموج مع النسيم. الأكواخ تنعكس على المياه، وسحابة بيضاء باهتة من الدخان تتلاشى في السماء. جدار من الأحراش الصغيرة يمتد خلفها. كان هناك 67 كوخاً تنتشر حول البحيرة لا يفصلها عن بعضها سوى ياردات قليلة في بعض الأحيان. تبدو عن بعد وكأنها تغوص في المياه، ولكنها في الحقيقة مبنية على طبقات مرصوصة من الأحراش، تشبه عش بجعة عملاقة، تكفي لبناء الكوخ ومساحة امامية. تقف جاموستان تتقاطر المياه منهما امام منزل قريب، جواميس اخرى تغطس في المياه لعمق متفاوت. البيوت هنا مبنية من القصب مثل بيوت القرى على اليابسة، مشيدة من حصران معقودة الى هياكل القصب المقوسة، مفتوحة من جهة واحدة. كان بإمكاننا ان نرى داخلها ونحن نجذف عابرين من امامها. البعض منه كان فسيحاً والبعض الآخر مجرد ملاجئ من الصعب تصنيفها كمنازل! للجديد منها لون التبن الناضج ولكن الغالبية منها تبدو رمادية متسخة. الناس تصعد او تنزل الى القوارب للتنقل من جزيرة الى اخرى. رجال وصبيان يفرغون حمولة القوارب من الحشيش ليصفوها امام منازلهم. ألقينا عليهم التحية فأجابوا: أهلاً... اهلاً تفضلوا للطعام! ...