يمر الرئيس الأميركي وإدارته بحال يمكن وصفها اكلينيكياً بأنها "عربية". فهو يعاني مثل العرب من عجز أسطوري عن أي فعل أو مبادرة إزاء الأمر الواقع الذي فرضته عصابة اسرائيل. وفي هذه الحال المرضيَّة هناك أعراض أكثر خطورة من سواها، إذ نجد أن بعض المصابين بها يذهب الى حد الاعتقاد بأنه إذا استحال انقاذ الضحية فلا بأس في نصرة الجلاد أو التطبيع معه. بانتخابات رئاسية أو من دونها، وضع جورج بوش نفسه في موقع اللافعل واللاسياسة، تحديداً منذ انزلق في نزوات شارون ووحشية موفاز وترهات رئيس الأركان يعالون. تلك كانت الوصفة التي ابتدعها "صقور" البنتاغون، وما لبث "حمائم" الخارجية أن خضعوا لها كلياً. ارتأى هؤلاء وأولئك ان لا شيء يمكن أن يتقدم على طريق الحلول، قبل "الخريطة" وبعدها، إلا إذا غاب ياسر عرفات عن الواجهة. كأنهم ضمنوا "مئة في المئة"، وفقاً للمقادير التي رددوها مراراً، ان عصابة اسرائيل ستتصرف ك"دولة مسؤولة"، أو كأن الحلول جاهزة لا تنتظر سوى تنحي ذلك الرجل. لم يشأ أحد في واشنطن ان يلاحظ بأن اعلان بوش "شطب" عرفات لا بد أن يترجم عند القتلة الاسرائيليين بأنه ترخيص أميركي بتصفية الرئيس الفلسطيني، لذلك اتخذوا أخيراً قرار "إزالة العقبة"، ولذلك أيضاً لم يتمكن الأميركيون من تأييد قرار دولي يطلب من اسرائيل وقف تنفيذ هذا القرار. هذه دولة عظمى، ووحيدة، متورطة منذ عقود في قضية اقليمية الى حد جعلها من قضايا السياسة الداخلية، وليس لديها أي موقف "أميركي" مستقل فيها. ومع ذلك فإن حل هذه القضية متوقف على سياسة هذه الدولة. فكيف يمكن أي حل أن يبصر النور إذا كان المخطط من نمط شارون أو موفاز أو حتى يعالون. الأخير قال أخيراً انه متأكد بأن الانتفاضة الفلسطينية ستنتهي. ولعل زملاءه في العصابة سيصفقون لمثل هذا الكلام، رغم انهم متفقون على أن كل مرة يفتح رئيس الأركان فمه فإنه سيتفوه بحماقة جديدة. لكن الحماقات لا تقتصر على عسكري ارعن كهذا، فقد سبقه الرئيس الأميركي الى عشرات منها، حتى انه في تصريحات أخيرة أظهر انه لم يكن يعلم ان "أبو مازن" استقال من رئاسة الحكومة الفلسطينية. وآخر المنضمين الى نادي الحماقات كان وزير الخارجية الأميركي كولن باول حين وصف المجتمع الأميركي بأنه "يهودي مسيحي" في سياق اجابته عن سؤال يتعلق بالمجتمع العراقي. وقيل انها "زلة لسان". مع ذلك، يبقى باول أكثر شفافية من سواه في إدارة أميركية لا تنفك نياتها المبيتة تفاجئ أكثر الأصدقاء ادعاء بمعرفتها. ومن مظاهر شفافيته أنه أفهم شركاءه في الهيئة "الرباعية" بأن لا داعي لتوقع أي مبادرة أو حركة في السياسة الأميركية حيال الملف الفلسطيني. أي انه عملياً أبلغ "الرباعية" انها محكومة بالعجز والمراوحة: بوش غدا "بطة عرجاء"، شارون ذهب الى أقصى ما يمكنه من احتلال واغتيال وتدمير وسرقة أراض. الوحيد القادر على تغيير الوضع هو عرفات، بأن يتخلى عن القيادة ويرحل! لماذا؟ لأن شارون يرفضه ولا يطيقه. إذاً، فإن واشنطن بالتبعية ترفضه ولا تطيقه. لم يشأ أحد في الإدارة الأميركية الرشيدة ان يولي أي اهتمام لما يريده الشعب الفلسطيني، مع ان الجميع في هذه الإدارة لا يتكلم حالياً إلا عما يريده الشعب العراقي! الواقع ان الأميركيين يحترمون إرادة الشعب العراقي طالما أنه راض بالتعايش مع الاحتلال، ما يعني استطراداً ان ارادة الشعب الفلسطيني تلقى الاحترام الأميركي إذا قبلت بالاحتلال الاسرائيلي. هذا هو الوعد المطروح للفلسطينيين مقابل وقف الانتفاضة، ولا شيء غير ذلك. أما كل المسرحيات التي عرضت خلال سنتين، من "رؤية" باول الى "رؤية" بوش ال"تقرير ميتشل" الى "خريطة الطريق"، فإن حسن النية الذي انطوت عليه تولى شارون وعصابته قتله ودفنه في ركام جنين وتحت مئات المنازل والأبنية التي دمرت في نابلس ورفح وغزة ورام الله. فحسن النية، على افتراض وجوده أصلاً، برهن بقوة على انه ليس سياسة ولا مبادرة سلام، وانما غطاء لمزيد من الجرائم الاسرائيلية.