إذا أكمل كولن باول على هذا النحو، فإن فشله الراهن سيتأكد ويترسخ. ارتضى أن يذهب للقاء الرئيس الفلسطيني مكرساً الحصار الإسرائيلي المفروض على مقره. نسي "الانسحاب الفوري"، كما نسيه رئيسه جورج بوش، وهو يتعامل الآن مع الأمر الواقع الذي فرضه ارييل شارون عسكرياً. لم يطلب باول أي اجراء استثنائي يمكن أن يشير إلى أن وجوده في المنطقة غيّر أو سيغيّر شيئاً، وبالطبع ليس شارون أو موفاز أو حتى بيريز من سيقدم إليه أي "هدية". حتى رؤساء الكنائس في بيت لحم خرجوا من لقائهم مع باول بخيبة أمل. حتى الآن، يبدو باول كمن يفاوض باسم شارون وبالنيابة عنه وبشروطه، بل سيوسع الحلقة ليوصل تهديدات بوش وشارون إلى بيروت ودمشق. ولا يُعرف لماذا يبدو العرب الذين زارهم باول، قبل وصوله المتأخر جداً إلى إسرائيل، مندهشين ومحبطين. فإما أنه كذب عليهم، وإما أنهم فهموا خطأ ما قاله أمامهم. في أي حال، لا يبدو باول أمس مثل باول الأربعاء الماضي حين ظهر في مدريد بعد "اللقاء الرباعي"، انه اليوم تحت وطأة القوة الشارونية التي يعرف باول جيداً كم ان لها مؤيدين في الإدارة الأميركية، وبالتالي ففي مصلحته أن لا يصطدم بالبلدوزر الإسرائيلية لئلا تجرف حياته السياسية في واشنطن مثلما جرفت جثث الشهداء في مخيم جنين. ماذا يمكن لوزير خارجية أميركي أن يفعل ازاء مجرم حرب إسرائيلي يحظى بدعم مطلق من سيد البيت الأبيض؟ هل تختصر المسألة ب"العمليات الانتحارية"، وهل تبرر هذه العمليات أن تعيد إسرائيل احتلال المناطق الفلسطينية؟ في المفهوم الأميركي، نعم، انها تبرره. وإلا فما الذي فعلته الولاياتالمتحدة اثر هجمات 11 أيلول سبتمبر، ألم تحتل أفغانستان؟ أصبح الاحتلال مذهباً أميركياً ساهمت إسرائيل في اغنائه وتعميقه. كل ما لدى أميركا للعرب والفلسطينيين قليل من الكلام عن "الدولة الفلسطينية" وعن "كرامة الشعب الفلسطيني" فيما هي تفلت وحوش إسرائيل للانقضاض على هذا الشعب. التقى باول الرئيس ياسر عرفات الذي طلب أن تنسحب القوات الإسرائيلية من المناطق التي احتلتها. وليس معروفاً ما الذي رد به باول، وهل اعترف صراحة أنه لا يملك مطالبة شارون بالانسحاب. والمهزلة أن ممثل الدولة العظمى ينقل إلى رئيس "الدولة" المحتلة المحاصر شروطاً لا تزال تسمى "شروط وقف اطلاق النار". أي وقف وأي اطلاق نار؟ لعل المقصود، تكراراً، وقف "العمليات الانتحارية" التي لم تكن إعادة الاحتلال إلا لوقفها وهي مرشحة لأن تتكرر، خصوصاً إذا اخفق باول، علماً بأن نجاحه هو في يد شارون أكثر مما هو في يد عرفات. فالنجاح ليس مرهوناً ب"وقف النار" فلسطينياً، وإنما برضوخ شارون ل"الشق السياسي" في مهمة باول. قبل أن تهبط طائرة الأخير في إسرائيل كان شارون قد أفشله في "الشق الأمني"، متحدياً الرئيس الأميركي نفسه بأنه لن ينسحب، وجاءه الدعم من وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الذي أيده في حملته وأهدافه ووسائله. يبقى "الشق السياسي" الذي لا يريد شارون أن يقدم فيه أي شيء الآن. هل لا يزال مبكراً القول بأن مهمة باول آيلة إلى الاخفاق، هل سيكون مصيره أفضل من مصير المبعوثين الأميركيين الآخرين وكانوا جميعاً "أصدقاء" لإسرائيل؟ الأكيد أن باول شهد على الأرض وضعاً لم تعكسه له التقارير، مهما بلغت دقتها، وطالما انه لم يجرؤ حتى الآن على مجرد التفكير في زيارة مخيم جنين، ولم يطلب رفع الحصار على مقر عرفات، ولم يعد يتحدث عن الانسحاب، فمعنى ذلك أنه يعترف بالأمر الواقع. ولأنه عسكري أولاً وأخيراً، فإنه لن يجد أسباباً كافية لاقناع "المنتصر" الإسرائيلي بالتنازل عن انتصاره للعودة إلى... طاولة المفاوضات.