ثمة في هذا العالم اناس مرهفو الثقافة والذكاء، ولكن بطريقة تكاد تكون تراجيدية. فالرهافة الذهنية والروحية هذه التي واظبوا على تربيتها وشحذها وصقلها، هي بالذات التي تدفعهم الى الإقامة عند الحد الأقصى للكتابة عموماً، والكتابة الأدبية خصوصاً، فهم يعولون على الكتابة، ويتوسلون بها، ما يتيح لهم العثور على متكآت لمصائر يحسبونها عمياء او فالتة من اي عقال، ما دام قوامها ومادتها شديدي الهشاشة والتقلب بين عوالم وفضاءات متنابذة ومتنازعة، تصير الكتابة رجاء خالصاً، لحظة قصوى للأمل بإنقاذ مركب الحياة الذي تتهدده الأقدار بالغرق او التحطم. إنه نوع من الكتابة - الملاذ، وهذا النوع يشبه في بعض وجوهه البارزة العصا التي يتلمس بها الأعمى طريقه ويتهجّى، ليس كل شيء، بل ما يعنيه ويسعفه على مواصلة السير والعيش وسط العلامات والأشياء التي تظل خرساء في حال لم يصلها النور الداخلي الذي يحررها من عتمتها. تنتمي الكاتبة اللبنانية باللغة الفرنسية، دومينيك اده، الى هذا النوع من الروائيين الشديدي الرهافة، وإن كان لها بطبيعة الحال طريقتها الخاصة في الانتماء وفي التعاطي مع الكتابة. وهذا ما يجعل روايتها الصادرة حديثاً ضمن سلسلة "لاربونتور" التابعة لدار "غاليمار" الفرنسية المعروفة، في عنوان "طيارة ورق"، عصيّة بعض الشيء على التصنيف، سواء كان هذا التصنيف يطاول الأدب الروائي عموماً، ام الأدب المتنوع المصادر والمناحي والمكتوب باللغة الفرنسية. هذه العلاقة الخاصة مع الكتابة هي ايضاً طريقة خاصة للإقامة، القلقة والمتوترة، داخل فضاء الأدب الفرنكوفوني وتوزعه بين عالمين وثقافتين ولغتين حيث تنعقد بين الواحد والآخر ضروب من الاشتغال والتداخل ومن التبادلات الرمزية التي تطاول مكانة وقيمة كل منهما بالنسبة الى الآخر. طريقة عقد هذه التبادلات وتمثيلاتها وتعبيراتها تشي بطبيعة الحال بطريقة الكاتب الفرنكوفوني بالمتوقع داخل الفضاء الأدبي والمحل الذي ينظر ويتحدث منه. ومعلوم ربما ان هذا الفضاء الفرنكوفوني بالذات مرشح اكثر من غيره ربما، للتعرض للأحكام الجاهزة والمسبقة وتسويقها، وإن كان لا يعدم التنوع والتعدد. وبالنظر الى طغيان الآراء والصور النمطية في قسم رائج من الأدب الفرنكوفوني، تبدو كتابة دومينيك إده الروائية، على قلّتها، اشبه "بحرب عصابات" ثورية تخوضها الكاتبة داخل الأدب والثقافة. ورواية "طيارة ورق" تترك بالتأكيد انطباعاً قوياً بأنها رواية مثقفة، بل مثقفة جداً من دون ان تسقط في الحذلقة الفكرية وفي النبرة التعليمية، بحيث تظل اللغة السردية الروائية على متانتها وقوتها وإيقاعها. ويسعنا بسهولة ان نصدّق قول الراوية المتحدثة في صيغة المتكلم والتي تصف الكتابة بأنها شيء اقوى منها، شيء "كنت اراه وكأنه عملية رفع لحمل ثقيل". ودومينيك إده لا تزعم الاحتراف الأدبي، فخلال اربع عشرة سنة، اي من عام 1989 وحتى هذه اللحظة، لم تنشر سوى اربعة كتب - نصوص. على ان هذه القلة ليست مؤشراً على كسل او تعطل، بل هي على العكس ناجمة عن التشدد والصرامة مع الذات ومطالبتها بأقصى الجهد لإنجاز عمل فني، وبالفعل، تولي صاحبة "طيارة ورق" عناية فائقة بلغتها وعباراتها ولا نبالغ إذا قلنا ان كل كلمة تقريباً تكاد تكون موزونة بميزان الذهب. بل حتى يسعنا ان نعلق مازحين بأن هذا المقطع او ذاك من الرواية يزن كذا قيراطاً. هناك موضعان اثنان في رواية تقع في 262 صفحة من القطع الكبير، من شأنهما ان يحيلا القارئ الى عنوان الرواية ذي الصفة الكنائية. ففي الصفحة 135 تتحدث الراوية عن نشاط امرأة مناضلة من اصل تركي اسمها ياسمين حنا، ومتزوجة من رجل ماروني، قامت بالتعاون مع بضع صديقات بتأسيس مركز ثقافي عند مدخل احد المخيمات الفلسطينية في بيروت، وذلك بعد ثلاثة اعوام على هزيمة حرب 1967. خلال اجتماع لأجهزة الأمن السري في حركة فتح يقول مدير المركز، وهو فلسطيني من حيفا: "اعطوا السلطة لياسمين حنا، وسوف ترون كيف سترد فلسطين إليكم بإصبعها، وكأنها طيارة ورق". الموضع الثاني لاستخدام الكناية - العنوان نجده في الصفحات الأخيرة من الرواية تحديداً في الصفحة 2257، وهو اكثر إسهاباً وإفصاحاً عن حمولة الكناية وترميزاتها. ففي هذه الصفحات الأخيرة، تجمع الراوية معظم الشخصيات التي حفلت بها الفصول والمقاطع السابقة، بما في ذلك الذين ماتوا او اختفوا او قبعوا في الهامش او في أدوار ثانوية. كلهم مجتمعون الآن في المركب الذي "يردّ الحياة الى الحياة". وها هنا يدخل على حين غرة رجل ارمني الأصل، نلتقي به في بداية الرواية ثم يختفي، واسمه دانس فافيكيان، ويعلم الحاضرين بأنه لن يدعهم يذهبون قبل ان يسمعوا ما سيقول، خصوصاً انهم لم يرغبوا في حضوره داخل الرواية. هكذا ينطلق الأرمني في إلقاء خطاب سياسي - ادبي ساخن حول الشرق وأوضاع المنطقة مستهلاً تعليقه بالحديث عن نهاية صدام حسين واستقبال البيت الأبيض لفتى هو نموذج مستنسخ عن الرئيس المخلوع، حيث يقدّم إليه الرئيس الأميركي نموذجاً مصغراً لتمثال الحرية بعد إجراء عقد تجاري يتعلق بالأسلحة. ويقول الرجل الأرمني بأنه قرأ في نشرة اخبارية خبراً مفاده انه جرت مساء البارحة عملية رجم لامرأة صنعت لابنها طيارة ورقية وضعت عليها صورة فوتوغرافية للرئيس. ويضيف الرجل بأنه سيترجم للحاضرين الذين لا يعرفون العربية معنى عبارة "طائرة من ورق" وبأنها بالفرنسية "طيارة ورق" Cerf - Volant. وما هي طيارة الورق؟ "إنها قبل كل شيء نقيض التمثال انها الحق في الذهاب في اتجاه معين، ومن ثم في اتجاه آخر، الحق في التحليق، في التوقف، في تخفيف السرعة، في اتخاذ صورة النسر او صانع الأشرعة، في السقوط، في الرجوع والانقلاب الى الوضعية الأولية، وذلك مرة مرتين ثلاث مرات، وفي التوقف فيما الرأس موجّه نحو الأسفل بحيث تكون الأرض بمثابة جدار او مرآة، وفي الصعود مجدداً والانطلاق ثانية" فيما تمسك يد مغفلة بالرواية من طرف خيطها، تلك هي "طيارة الورق" إنها سحابة من ورق تعبر الحدود، تخلطها، تلغيها، تكتمها، انها عملية تخييم في السماء، منديل ممدود فوق روح خذروف، إنها الطيف الشريد لكل ما خسرناه بسبب الخشية من كل شيء والقبول بكل شيء، ذلك ان العالم العربي، قولوا لي بربكم، خلال كم من الوقت بعد سوف نتركه في يد عصابات همجية...". ما دمنا قد اشرنا الى ان الراوية اعادت تجميع الشخصيات في الصفحات الأخيرة، فلنشر بالمناسبة الى انها، بعد مقاطع قليلة وقصيرة من ابتداء الرواية، تلفت نظر القارئ في الصفحة 29 الى ان الرواية تبدأ هنا. والشخصيات الواقفة على رصيف الميناء في انتظار ساعة اقلاع السفينة - الرواية، تروح تعرض نفسها لتعريف القارئ على نفسها، كما يحصل في بداية او نهاية العروض المسرحية. وليس مستبعداً ان يكون اصرار الكاتبة على تقديم الرواية وكأنها مسرحية ترفع الستارة عن شخصياتها للتشديد على انها، اي الرواية، ضرب من التمثيل والابتكار وعمل التخيل، هذا الاصرار يتوخى تذكير القارئ بضرورة بقائه على مسافة معينة من احداث وشخصيات الرواية. على ان تقنية "التمسيف" ابقاء المسافة هذه، ذات الطابع البريشتي ولو محوراً، تؤدي فعلاً معاكساً. فاللجوء الى الافتتاح والاختتام الممسرحين بطريقة مبسطة، من شأنه ان يعزز اشتباه القارئ، اكثر بكثير من تبديد هذا الاشتباه، في ان الرواية، متناً وشخصيات، تحمل في الكثير من وجوهها، معالم سيرة ذاتية شبه متخيلة. بعبارة اخرى، تروي دومينيك اده اشياء عاشتها وخبرتها وتتحدث عن شخصيات عرفتها عن قرب وعن كثب، بل هي حتى تبالغ وتغلو في معرفتها. مع ان رواية "طيارة ورق" هي في الحقيقة سلسلة من المقاربات الادبية المثقفة لالتقاط لحظات وتجارب تعود الى فترة زمنية سابقة تمتد من العشرينات الى الثمانينات، فإن الرواية تحيلنا بطريقة غير مباشرة وغير مقصودة، الى عالم فئة اجتماعية معينة، ذات صفة كوسموبوليتية. وهذه الفئة تحمل سوسيولوجيا، الكثير من ملامح "المسيحيين الشوام"، بسحب تسمية شائعة، المتنقلين بين المدن ذات الطابع الكوسموبوليتي مثل الاسكندرية وبعض القاهرةوبيروت وبعض الجبل اللبناني ودمشق، والتي تضررت من سياسة التأميمات في عهد جمال عبدالناصر. على ان دومينيك اده تتوغل على طريقتها، داخل هذا العالم الحامل وجه انغلاق ذي طابع جزيري نسبة الى جزيرة ووجه انفتاح كبير على العصر وشواغله. ويمكن القول ان هذا التوغل الخاص، النقدي والنضالي عموماً، يكاد يكون محاولة للعثور على كوسموبوليتية اخرى، ونقيض في معنى ما، بحيث تتزاوج الشواغل ذات الصفة العالمية مع شواغل المنطقة الدائرة على الاستقلال الوطني والحلم العروبي والقضية الفلسطينية. هذه الشواغل السياسية الحاضرة في الرواية تشكل الخلفية او الاطار العام من دون ان تستحوذ على مادة السرد، ومن دون الانحدار الى لغة الشعارات والخطابات الرنانة. علاوة على ذلك، تبقى الرواية مشدودة الى بؤرة سردية اساسية تدور على العلاقة الغرامية المستحيلة بين شخصيتين رئيسيتين في الرواية. الشخصية الاولى التي تقف الراوية خلفها هي فتاة اسمها مالي وهي ابنة رينيه شامي وزوجته كلير ذات الاصول الفرنسية، وقد تنقلت الاسرة بين مصر ولبنان ففي بلدة صوفر الجبلية اللبنانية تلتقي مالي ببيار وتتزوجه ثم تنفصل عنه وفرنسا، خصوصاً مدينة بيزانسون، من خلال شخصية وتربية وتجارب مالي، يتعرف القارئ على اجزاء ولحظات من "الرواية العائلية" للراوية - الكاتبة. الشخصية الثانية هي شخصية استاذ جامعي متخصص في اللغة العربية ويدرّس في لندن، اسمه فريد، وهو الولد الوحيد لزوجين انتقلا من دمشق الى الاسكندرية في العشرينات. هذا الرجل المثقف برهافة وعمق متزوج ولا يريد الانفصال عن زوجته للعيش مع مالي التي يحبها كثيراً. وهو، مثل مالي، مناضل من اجل القضية الفلسطينية ويساري الاتجاه. ثم يضعف بصره، وهنا تفتح الراوية الباب لتأملات واستشهادات حول العماء، من بينها كلام للكاتب الارجنتيني الاعمى بورخيس. ولئن كان فريد كثير التنقل لالقاء محاضرات، فإنه يتعرض في بيروت لمحاولة اغتيال بعد القائه محاضرة في الجامعة الاميركية حض فيها الحاضرين على تفهم المأساة والاضطهاد اللذين طاولا اليهود في الحرب الثانية وقبلها. الى ذلك تعج الرواية بشخصيات اخرى متفاوتة الحضور والحميمية، مثل "لؤلؤة" صديقة مالي الحميمة، والصحافي المصري فؤاد وهبة، والمحلل النفسي اللبناني موسى ساسين والسيدة ايفلين فرعون والمربية الانكليزية جين تيغليوود، والفرنسية مدموازيل، وبيار راشد الزوج السابق لمالي، وياسمين حنا التي سبق ذكرها، ومناضل اريتري اسمه "ابو المستقبل" والكثير غيرهم من الشخصيات التي تؤثث اي رواية حميمية مثل "طيارة ورق". والكثير من هذه الشخصيات يحضر بصفة شاهد فيما تحظى شخصيتا مالي وفريد بالقسم الاكبر من رأسمال الرواية. لا يظن القارئ ان هناك حكاية وأحداثاً، وان كانت الراوية تستعيد الكثير من الوقائع والحكايات، اذ ان متن الرواية يظل متصلاً بتأملات الكاتبة وبطلتها - قرينتها ومقاربتها المرهفة والذكية لمفاصل ولحظات بارزة من حياة وسيرة ذاتية مسكونتين باللوعة والمرارة والرغبة الجارفة في التحكم بالذات وفوازعها وتناقضاتها. ولا بد لنا، ها هنا، ان نشير الى ان الكاتبة لا تترك لقارئها فرصة التعمق في الشخصيات، اذ انها تتولى بنفسها تقديم الشخصية وتعليل حركاتها وسكناتها مستعينة بتبادلات كلامية تطاول صورة وآلية الشخصيات وقوامها السيكولوجي والتحليلي - النفسي، خصوصاً مالي وفريد. وقد ينم هذا عن براعة في الكتابة تتجلى في عبارات هي عصارة تفكير معمق يتخذ شكل الامثولة الحكمية أفوريزم الوجودية، كالقول مثلاً ان مالي كانت "تعاني من فائض حياة داخل نقص في الكينونة". والهاجس الوجودي يلف مناخ الرواية او معظمها، في محاولة قبض على حياة فالتة. وهذا النوع من الكتابة الرشيقة والمتحرقة في آن، لا يصنع بالضرورة رواية في المعنى المعهود للكلمة.