رحيل الكاتب والشاعر الفرنسي آلان بوسكيه الذي توفي يوم الثلثاء في 17 آذار مارس الجاري، عن سبعة وثمانين عاماً، لن يضع حداً للصعوبات التي اعترضت وسوف تعترض تقديرات وتقويمات الأدباء والنقاد لتعيين وتعريف مكانته الحقيقية في الأدب الفرنسي المعاصر. ومع انه ترك اعمالاً وكتباً يربو عددها على الخمسين، ومعظمها صدر لدى دور نشر فرنسية كبرى على امتداد نيف ونصف قرن، وبالتحديد منذ عام 1945 حين اصدر مجموعته الشعرية الأولى في عنوان "الحياة سرّية". ومع ان نصوصه توزعت بين الشعر والرواية والنقد والمحاولات، فإنه من الصعب على معاصريه ومتابعيه ان يعثروا على تحديد لقيمة قابلة للرسوخ لنتاج بوسكيه، وإن كان هو يحبّذ صفة وهوية الشاعر على الصفات الاخرى لشخصيته وتجربته. غير ان رحيل الشاعر والكاتب يتيح، على جاري العادة وبمقتضى طقس رثائي عريق، النظر عن بعد الى مسار طويل وحافل تظهر حلقاته كأنها متصلة على تبعثرها وتوزعها بين امكنة وشواغل متفرقة ومتباينة. وعلى النحو ذاته، تتكشف وجوه تلازم واتصال بين السيرة الذاتية وبين النتاج، وهي وجوه تظلّ هاربة ومحتجبة في طيّات نصوص تتناسل وتجمح ولا تستقرّ على حال. والسيرة هذه تقول بأن الظروف التاريخية جعلت آلان بوسكيه يتمتع بثقافة كوسموبوليتية سعى الى اعطائها مذاق التجربة الشخصية. ذلك ان اسمه الحقيقي هو أناتول بيسك وهو مولود عام 1919 في منطقة أوديسّا من اعمال روسيا. وكان والده الكسندر بيسك يكتب الشعر من حين لآخر، كما كان اول مترجم لريلكه الى الروسية. غير ان العائلة غادرت روسيا بعد اشهر معدودة على ولادة الطفل، واستقرت في بلجيكا. وعندما وقعت الحرب الثانية كان أناتول بيسك أي آلان بوسكيه طالباً بلجيكياً من أصل روسي يتخصص في فقه اللغة الرومانية. الاجتياح الألماني في عام 1940 اجبر العائلة على تغيير الاقامة غير مرة. في تلك الفترة عرف الشاب بوسكيه خلال شهر واحد هزيمتين عسكريتين، الأولى في الجيش البلجيكي والثانية في الجيش الفرنسي، ثم انضم الى عائلته في مدينة مونبلييه الفرنسية في مرحلة أولى، وفي نيويورك في مرحلة ثانية. وعمل بوسكيه صحافياً في اذاعة "صوت فرنسا" الديغولية والتقى كبار المهاجرين الأوروبيين، كما نشأت صلة بينه وبين شيخ السورياليين اندريه بريتون. بعد ذلك انخرط بوسكيه في الجيش الاميركي الذي ارسله الى لندن حيث كان يجري التحضير للانزال العسكري الشهير. وقد مشى على خطى هذا الجيش داخل فرنسا ومن ثم ألمانيا وراح منذ عام 1945 وطوال ست سنوات يتمتع بحياة المنتصر الذهبية من دون ان ينسى الأدب، اذ انه اسس مجلة باللغة الألمانية ونشر منتخبات شعرية للسورياليين الأمر الذي عكّر صفو علاقته ببريتون، وكتب قصائد نشرها في أولى مجموعاته الشعرية الصادرة في فرنسا. وفي عام 1951 استقر في باريس ولم يبارحها الا في رحلات وأسفار قصيرة ومتقطعة حيث ألقى دروساً في الجامعات الاميركية ومحاضرات في بلدان اخرى وتحول الى ناقد أدبي متعدد المنابر، كما تعاون مع جريدة "لوموند" من عام 1961 الى عام 1984، وعمل في مجلات أدبية وصفحات ثقافية اخرى. وقد ترك بالفعل آلاف المقالات آخرها ظهر قبل اسابيع قليلة، اما آخر اعماله فهو رواية في عنوان "صورة بورتريه ملياردير تعيس" صدرت قبل اشهر عن دار "غاليمار" في باريس. نال آلان بوسكيه جوائز أدبية عدة، أبرزها جائزة الاكاديمية الفرنسية للشعر عام 1967، وكانت محاولاته النقدية ودراساته الادبية منذ الخمسينات دراسته عن سان - جون بيرس عام 1953، وأميلي ديكنسون عام 1956، ووالت ويتمان عام 1960، وبيار ايمانويل في العام ذاته إضافة الى نشره منتخبات من الشعر الاميركي والفرنسي ومن العالم بأسره، جعلت من بوسكيه متخصصاً ذا شأن في ميدان الأدب، ولم يحصل هذا الشأن من دون عداوات وخصومات كثيرة. ويمكن القول ان الخصومات التي أثارها بوسكيه تعود في معظمها الى حدّة مزاجه والى جموحه الرسولي في الدفاع عن الفكرة التي كوّنها عن الشعر من خلال التأثيرات التي تلقاها من السوريالية الزاعمة تحرير الشعر من تقييدات وتضييقات العقل، ومن الدادائية التي جعلته يجنح الى السخرية وإلى اطراح كل شيء، ومن المدرسة التعبيرية الألمانية التي تلقي اللعنة والشقاء على الانسان والعالم، وفي نهاية المطاف، من التساؤلات التي كانت تطرحها الفلسفة على اللغة. مع ان المؤثرات المذكورة ترجح الظن في ان يكون شعر بوسكيه قاتماً ومظلماً، فإن هذا الشعر يبدو مائلاً الى اللعب والمناورة ومسرحة الجرأة والجسارة. لا شيء في شعر بوسكيه يستقر على حال فالعالم محيّر وفالت من عقاله، والأشياء لا تمكث في مواضعها بل تروح تتحول على الدوام الى اشياء مناقضة يتعذر توافقها مع هويتها الأولى. والحق ان لعبة بوسكيه الشعرية القائمة على الايغال في التفكيك والبعثرة والتبديد، المشفوعة بالفانتازيا والسخرية واللامبالاة، انما هي طريقة لإخفاء قلق واضطراب عميقين يطاولان اقامة الانسان ووجوده في هذا العالم وفي هذا العصر. ويتخذ هذا القلق، لدى بوسكيه، طابعاً ميتافيزيقياً في بعض الاحيان، مما يجعله قريباً من الوجودية، ويتخذ في احيان اخرى طابعاً بسيكولوجياً، كما يتخذ طابعاً تاريخياً في احيان ثالثة، كالاعتقاد الرؤيوي بأن القنبلة الذرية اعطت الكوكب الأرضي وسائل وأدوات انتحاره. عن انواع القلق والاضطراب هذه، يعبّر آلان بوسكيه بلغة وعبارات لا تقوم على بث الشكوى والرثاء، كما قد يتبادر الى الذهن للوهلة الأولى، بل بلغة تقوم على الاستفزاز والتحدي والازدراء. ويكاد الامر ذاته ينطبق على تجربة بوسكيه الروائية التي بدأت عام 1952 وتلتها رواية "حاجة الى الشقاء" الصادرة عن دار غراسيه عام 1963. وقد ظلّ بوسكيه يردد ويؤكد على الدوام بأن اعماله النثرية انما هي طريقة لتصفية حساباته مع عصره وزمنه. وإذا كانت هذه الروايات تستعير عناصر النثر الروائي المعهودة فإنها مع ذلك تظلّ نثريات روائية صادرة عن شاعر يميل الى الاختزال والضغط وينزع عن شخصياته اية كثافة درامية. وقد تكون هذه الطريقة في الكتابة الروائية هي التي تحول بين نصوص بوسكيه الروائية وبين الجمهور الواسع لقرّاء الرواية في فرنسا. وسط النتاج الغزير لبوسكيه نقع على مادة كثيفة تتصل بسيرته الذاتية شعراً ونثراً. وهذا ما يظهر بوضوح في كتابه "ام روسية" الصادر عن غراسيه عام 1978 والذي نال عليه جائزة الاكاديمية الفرنسية للرواية، اذ في هذا الكتاب يصنع بوسكيه صورة عن امه التي ماتت لتوها، بل يجدر القول انه يعرض في صورة مبتكرة الطبيعة المتناقضة لعلاقاته مع امه حيث نجد الحب الى جانب الكراهية، والتفاني الى جانب الانانية، والاعجاب الى جانب الانزعاج والشعور بالضيق. ولم يكن الكتاب المذكور الدائر على صورة الأم الا فاتحة سلسلة من الكتب الاخرى التي حملت بدورها طابع السيرة الذاتية، وفيها يجعل صيغ الكلام تتراسل مع كل مرحلة من مراحل حياته، فضمير المخاطب يتوجه الى الطفل، وضمير الغائب الى الشاب المراهق، وضمير المتكلم الى الانسان البالغ والناضج الذي يروي حكاية الحرب. لاستكمال هذه السيرة اصدر بوسكيه عام 1986 كتاباً يرسم فيه صورة أبيه، وهو صدر عن دار "غاليمار" في عنوان "رسالة الى أبي الذي كان مقدراً له ان يبلغ المئة عام". جرت ترجمة نصوص وأعمال بوسكيه الى لغات اجنبية عدة، وقام بهذه الترجمة، في حالات محددة، كتّاب كبار اقاموا صلات صداقة معه، ونخص بالذكر صموئيل بيكيت ولورنس داريل اللذين نقلا نصوصاً لبوسكيه الى الانكليزية. اما عربياً فصدرت منتخبات شعرية عن دار عويدات في بيروت عام 1984 في عنوان "قصائد مختارة" اشرف على اختيارها وترجمتها أدونيس وفينوس خوري - غاتا وعلا خوري. وعلى الرغم من الرصيد العالمي والترجمة الى لغات وبلدان عديدة، فانه يصعب القول بأن آلان بوسكيه قابل للاحتساب في عداد كبار الشعراء الفرنسيين. وهذا لا ينتقص بالضرورة من قيمة نتاجه ولا خصوصاً من قيمة شهادته الشعرية المحمومة على عصر عبره الشاعر الحافل بالتناقضات من دون ان يعثر على وجه راسخ للاقامة فيه. بل ثمة في مسار بوسكيه وفي تحدياته الشعرية وتقريعاته ونداءاته الداعية الى الازدراء، ثمة ما يدعو الى الرثاء، وإن كانت هذه الاستعراضات الشعرية تعبيرات عن بحث مضطرب عن ماهية الذات وقوامها. ومع ان بوسكيه ظلّ يكتب الشعر الموزون حتى آخر أيامه، الى جانب قصائده النثرية، فإنه كان داعية انقطاع عن التقاليد الأدبية الموروثة، هذا من ناحية الشكل، اما من ناحية المضمون، فإنه ظل يقول عن نفسه بأنه ليس "شاعر المياه الناعمة"