"طيارة من ورق" عنوان الرواية الجديدة للروائية اللبنانية دومينيك إده صدرت أخيراً عن منشورات "غاليمار" الباريسية ضمن سلسلتها "لاربانتور"، وهي الثالثة بعد روايتين، الأولى صدرت عام 1998 وعنوانها "رسالة ما بعد الوفاة"، والثانية بعنوان "لماذا هذا الظلام الحالك؟"، وصدرت عام 1999. من عنوان الرواية الجديدة "طيارة من ورق" يمكن الدخول الى عالم دومينيك إده وكل ما فيه، من أماكن وشخصيات ومصائر وصراعات ذاتية وعامة، يتأرجح صعوداً ونزولاً، يميناً ويساراً، تماماً كتلك الطائرة الورقية. وإذا كانت هذه الرواية تنطلق، في الظاهر، من قصة صداقة عميقة بين مالياللبنانية ولولوا المصرية، ومن حكاية حب بين فريد ومالي، فإنها تركز أساساً على الواقع السياسي الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط الحافلة بالأزمات والحروب. تروي المؤلفة ذكريات وأحداثاً مشحونة بمعاناة الذات والقضية والوطن والمصير. وللوهلة الأولى تبدو قضية الصراع العربي - الإسرائيلي عبئاً تتقاسمه شخصيات الرواية. ففريد المثقف يناضل من أجل القضية الفلسطينية ودافيد كوريال وماريا كوبا يعبران عن موقفهما المؤيد لإسرائيل، غير ان الجميع يعترف، في أحد الحوارات التي تجري بينهم، ان حاضر التاريخ معطّل وان العرب واليهود على السواء بقوا سجناء الأفكار المسبقة والمحرمات وذهنية القبيلة، وان الحروب والانتصارات العسكرية، مهما تعددت، لن تبني السلام في هذه المنطقة. وتنتقل الكاتبة بين بعض المدن المشرقية التي عرفت بطابعها الكوسموبوليتي، الاسكندرية والقاهرة وبيروت، لتجعل منها مسرحاً للأحداث والذكريات. وهو مسرح تلتقي فيه المصائر وتتقاطع، ويتداخل فيه أيضاً الذاتي والعام، فتتماهى قصة الحب بين فريد ومالي مع القضية الفلسطينية لتصبح هذه القضية فصلاً من فصول حياتهما الخاصة. "طيارة الورق" ليست شيئاً ثابتاً جامداً، كما سبق أن أشرنا، بل في إمكانها التحرك في كل الاتجاهات وبوتيرة مختلفة، سريعة أو متمهلة، تشبه حركتها حركة الطائر في تحليقه وطيرانه، وتبدو على امتداد الرواية كأن يداً خفية تديرها وتتحكم بها كما تشاء وفي الاتجاه الذي تريد. وهذا يعني، بحسب المؤلفة أيضاً، ذلك الكابوس الذي يحيرنا. في خلفية القصة تغوص المؤلفة في الواقع السياسي والاجتماعي لمنطقة الشرق الأوسط وتغطي حقبة تمتد من الأربعينات الى حرب الخليج، وهي تشمل الشرق والعالم العربي كله. كأنها تؤرخ من طريق الأدب لحقبة تمتد من مرحلة إقامة الدولة اليهودية الى المرحلة الراهنة وما تفيض به من معاناة وقهر. تعتمد الرواية أيضاً على الذكريات بصورتها القوية. الذاكرة لا تتوقف عن السرد والمحاكاة، فتتعاقب الأحداث السياسية في المنطقة ومنها هزيمة 1967 ووحشية حرب الميليشيات في لبنان ليبدأ التشرد المفروض بالقوة مرحلة تعتبرها الكاتبة محطة بارزة في سلسلة الانكسارات والهزائم. من هنا تنطوي الرواية على شيء من الغضب لا تخففه سوى عبثية المواقف. ولا تتوقف الخلفية السياسية عند هذا الحد بل تذهب أبعد من ذلك فتتصدى للصراع العربي - الإسرائيلي والمأساة الفلسطينية والهيمنة الأميركية في المنطقة. والرواية بقدر ما هي مناسبة للبوح الذاتي عند البطلة "مالي"، تعكس في الوقت نفسه مأساة تؤلف إحدى العقد الأساسية التي يدور حولها هذا العمل الروائي، ذلك ان العلاقة بين "مالي" و"فريد" هي علاقة مرتبكة تحتضن مواعيدها غرف الفنادق، أما مستقبلها، مستقبل هذه العلاقة، فهو مؤجل كالسلام المؤجل في المنطقة. تقتضي الاشارة أخيراً الى أن العمل الروائي الجديد للكاتبة اللبنانية دومينيك إده يعمق تجربتها الأدبية ويأتي من منطقة تعرف، وبأي إيقاع وتوازن، أن تزاوج بين الواقع السياسي والإنساني من جهة والأبعاد الجمالية من جهة أخرى، ونتاج الكاتبة مسكون بتلك النزعة الانسانية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من عمارتها الأدبية والفنية. ولا تغيب التساؤلات المتعلقة بطبيعة العمل الروائي نفسه في روايتها الأخيرة وهي تختصرها بأسطر رائعة تختزل بعضاً من أجواء عملها: "مرة واحدة تكفي لكي نشعل حلماً ما، وغيمة واحدة تكفي لكي نطفئه. أما بالنسبة الى الذي يروي القصة، فإن بإمكان الحلم والغيمة معاً أن يدوما ألف عام. من قال إن الرواية تدور كما تدور عقارب الساعة، ذلك أن تلك العقارب تستطيع أن تتوقف ساعة واحدة عند دقيقة واحدة، وثانية واحدة على امتداد عشرين عاماً. إنها آلة قادرة على أن تأكل حياة بأكملها في صفحتين اثنتين فقط".