نقرأ الكثير عن "الغيشا" اليابانية، سواء في الروايات التي تستوحي شخصيتها وتاريخها أم في الصحافة وسواها. لكن صورة هذه الفتاة أو المرأة تظل محاطة ببعض الغموض. هنا قراءة في كتاب صدر حديثاً بالإنكليزية يتناول "أسطورة" الغيشا من خلال شخصية حقيقية حاولت أن تتمرد على واقعها. لا بد من الإشارة بداية، إلى أن الصورة الحقيقية لفتاة الغيشا اليابانية في المخيال الشعبي العربي ليست دقيقة بل دخلتها إضافات كثيرة، منها ما هو مستوحى من نماذج الجواري اللواتي لعبن أدواراً بارزة في التراث العربي والإسلامي وكان منهن أمهات لخلفاء وسلاطين في حقب تاريخية مختلفة، ومنها ما هو مرادف لدور نساء المتعة في بيوت البغاء المخملية والباهظة النفقات. ليس من شك في أن الجانب الأساسي من الصورة، أي الفتاة الجميلة جداً والتي تحسن الترفيه عن الرجال الأغنياء من أصحاب النفوذ والسلطة، ليس بعيداً عن الواقع. ففتيات الغيشا هن من أجمل نساء اليابان، وشكلن معلماً بارزاً في تقاليدها المتوارثة منذ أكثر من ألف عام، وحظين باهتمام بالغ في الأوساط الثقافية، اليابانية وغير اليابانية. لكن الكتابات العربية ركزت على فتاة الغيشا بمفردها من دون الإشارة إلى المؤسسة العريقة التي تسمى كاريوكاي، أو بيت المتعة المثالية. فهي التي ترعى الفتاة وتتكفلها بالتعليم والتدريب منذ سن مبكرة، إذ تبدأ عادة في السن السادسة من عمر الفتاة وتستمر في الرعاية ودفع النفقات حتى سن البلوغ حين تبدأ فتاة الغيشا بالعمل لتسديد نفقاتها الباهظة. لذا يعتبر الكتاب الصادر حديثاً 2003، باللغة الإنكليزية تحت عنوان، "غيشا غيون" بوكت بووكس، لندن 2003 مصدراً مهما لتقديم صورة علمية دقيقة عن حياة الغيشا من بداياتها الأولى حتى نيلها الشهرة ثم التقاعد والانصراف إلى حياة أخرى. فهو يروي، وبأسلوب رائع صاغته الكاتبة راندي براون، التفاصيل الدقيقة لحياة مينيكو إيواساكي، وهي الغيشا الأكثر شهرة باليابان في النصف الثاني من القرن العشرين. يقع حي "غيون كوبو" الوارد في عنوان الكتاب في مدينة كيوتو التي كانت عاصمة اليابان خلال قرون طويلة قبل أن ينتقل مركز الحكم إلى طوكيو، أي العاصمة الشرقية، إبان حكم الإمبراطور مايجي في القرن التاسع عشر. وهو من أجمل أحياء الغيشا وأكثرها شهرة في العالم. وتعتبر تقاليده العريقة مرجعاً أساسياً لدراسة ظاهرة الغيشا. وهو يمثل معلماً بارزاً في تاريخ مدينة كيوتو التي تعتبر واحدة من أجمل مدن العالم التي توفر للزائر جمال الطبيعة الخلابة، والنظافة، ووفرة الفنون والتقاليد اليابانية المستمرة فيها من دون تغيير جذري. ولدت ماساكو في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 1949، وهي تنتسب إلى أسرة فوجيوارا التي تعد واحدة من الأسر العريقة في اليابان. وقد وافق الأب، بعد طول معاناة، على إرسال إبنته إلى بيت الغيشا في غيون كوبو، في طوكيو وهي في السادسة من عمرها. كانت تحب اسرتها كثيراً وكانوا يبادلونها الحب. وبعد أن حرمت من رعايتهم لها بات لديها حنين غامض إلى البيت العائلي الذي لم تزره إلا نادراً طوال أيام حياتها. وبعد سنوات قليلة مثلت أمام القاضي ومعها أفراد عائلتها وقبلت بالتخلي عن إسمها العائلي وأن تحمل إسم بيت الغيشا، فعرفت بإسم مينيكو إيواساكي. وجرى الإتفاق مع ربة البيت على أن تصبح الفتاة الصغيرة لاحقاً مديرة البيت بعد بلوغها السن القانوني. كان الأب يشعر في أعماق نفسه بأنه ينقذ إبنته من الضياع ويؤمن لها مستقبلاً زاهراً بعد أن توسمت فيها ربة البيت كل النباهة والذكاء إضافة إلى الجمال الطبيعي الأخاذ. وقد عبرت بنفسها، وهي في أوج مجدها، على أن قرار والدها لم يكن خاطئاً. وغفرت له تخليه عنها إذ لم يكن له خيار آخر في ضمان مستقبل إبنته بعد ان فشل في إيجاد عمل ملائم لإعالة أسرته. يظهر الكتاب أن فتيات الغيشا كانت تنتقى من منابت إجتماعية متنوعة. فمنهن بنات من عائلات غنية وميسورة ومتوسطة وفقيرة. ويعتبر الجمال الطبيعي، والبنية الجيدة، والنباهة من المقاييس الضرورية الواجب اعتمادها حين اختيار الغيشا قبل أن توقع عقداً رسمياً أمام القاضي بإنتقالها من عائلتها القديمة والانتساب إلى بيت الغيشا مع تغيير إسمها لتحمل لقباً جديداً تعرف به. وبعد تدريب يومي خلال سنوات طويلة لا يتم قبول كثير من الفتيات اللواتي لم يتقن التعلم في شكل متميز، أو مارسن أعمالاً أخلاقية مشينة. يبدأ العمل في سن الخامسة عشرة، وتعرف الغيشا باسم مايكو أي "الفتاة الفنانة" أو التي نذرت نفسها للفنون التي تتعلمها. وهي مرحلة مهمة في حياتها وعليها أن تجتاز خلالها خمس مراتب تتميز كل منها بنوع تسريحة الشعر، وبعض المظاهر البارزة والدالة على كل منها. وبعد اجتياز تلك المراحل بمساعدة الأخت الكبرى تتنقل فتاة الغيشا من مرتبة مايكو أو الأخت الصغرى إلى مرتبة غايكو أو "الفتاة التي أتقنت فن الرقص". وهي الأخت الكبرى التي أكملت نضجها التام في مختلف الفنون التي تعلمتها، وخضعت لإختبارات عدة أمام أساتذة كبار في الرقص والعزف وتقديم الشاي. وفي هذه المرحلة تبدأ فتاة الغيشا تسديد ديونها الكبيرة للبيت أو المؤسسة، وهي مدونة في دفاتر ربة البيت. وتأتي أثواب الكيمونو الغالية الثمن في مقدم تلك النفقات لأن المايكو أو الغايكو تحتاج إلى تغيير ثوبها بصورة شبه يومية، ولا بد من امتلاكها لأكثر من عشرة أثواب كيمونو بصورة دائمة. بعد أن حصلت مينيكو إيواساكي على التدريب الجيد في فن الرقص، تحولت نجمة مشهورة جداً في كل أنحاء اليابان خلال فترة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين. وأحبت فنها كثيراً وكانت تعمل يومياً من دون إجازة على مدار سنوات طويلة مما أصابها بالمرض بسبب الإعياء الشديد. ويظهر الكتاب كيف أن ثقافة الغيشا تكاد تكون معدومة خارج إطار الفنون التي تعلمتها. فعندما استأجرت شقة خاصة بها لم تكن تعرف شيئاً عن فن الطبخ والأعمال المنزلية. وقد تعرفت إلى شخصيات كبيرة جداً، منها ملكة بريطانيا إليزابيت الثانية وزوجها الدوق الذي أصر على محادثتها خلال فترة طويلة متجاهلاً الملكة. وكادت تحدث أزمة بين الزوجين بعد أن نام كل منهما منفرداً تلك الليلة. كما تعرفت إلى الأمير تشارلز من دون أن تشعر نحوه بأي جاذب. أما هنري كيسنجر فأتعبها بكثرة اسئلته لمعرفة تفاصيل حياة الغيشا. وفاجأها وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني بمعرفته العميقة باللغة اليابانية. لعل أمتع ما في الكتاب أن مينيكو إيواساكي لم تبق أسيرة الشهرة التي حصلت عليها. فلم تخف نقمتها الشديدة تجاه نظام تدريب الغيشا الذي يفقد الفتاة الحنان العائلي ويخضعها لحياة قاسية جداً لا يسمح فيها بأية أعمال مخلة بتقاليد الغيشا. كما أن التنافس الحاد بين البيوت المتهمة بالغيشا يجعل الفتاة أسيرة رقابة صارمة من البيت الذي أنفق عليها وباتت مدينة له بالمال الكثير. ورفضت رعاية فتيات المايكو أو الأخت الصغرى اللواتي جئن يطلبن رعايتها كغايكو أو الأخت الكبرى. فنصحتهن بالضغط على وزارة الثقافة في اليابان لتحويل تقاليد الغيشا إلى مدارس نظامية تعطى فيها الفتيات شهادات جامعية تسمح لهن بالعمل خارج بيوت الغيشا. واتخذت قراراً جريئاً بإغلاق بيت إيواساكي للغيشا وتحويل قسم من البناء إلى مرقص ليلي، وقسم آخر إلى مطعم. لكن التجربة كانت فاشلة تماماً. قررت مينيكو التوقف عن العمل كغيشا وهي في أوج مجدها الفني. وكانت أحبت مدير إحدى دور النشر اليابانية بعد أن اختبرته خلال ثلاث سنوات كان يزروها فيها يومياً لدى موعد تقديم الشاي. ورافقته في رحلات كثيرة خارج اليابان، وأمضت معه أياماً عاطفية جميلة. وكان وعدها بالطلاق من زوجته للزواج بها لكنه لم يف بوعده. فهجرته كسيرة القلب وتزوجت من رسام وما زالت تعيش حياتها في صورة عادية. ختاماً، هناك كتب كثيرة حملت في عناوينها "القصة الحقيقية لحياة الغيشا". وهي تروي تفاصيل الحياة اليومية لإحدى فتيات الغيشا التي دخلت العمل من أصول اجتماعية مختلفة. وليس من شك في أن لكل قصة نكهة خاصة بها. لكنها، في مجملها، تقدم نماذج حقيقية لأنواع متعددة من الغيشا. فغالبيتهن استمتعن بالشهرة وجمع المال. لكن مينيكو إيواساكي تمردت على هذا النوع من الارتهان الذي تصاب به فتاة الغيشا. وبلغ بها التمرد حد التخلي عن الشهرة والمال، وإغلاق بيت الغيشا الذي كان بعهدتها. * مؤرخ وكاتب لبناني، وضع كتاباً عن اليابان.