"ان المرء لا يمثل ليكسب قوته... يمثل لكي لا يعرف نفسه، ولأنه يعرفها اكثر مما ينبغي. لأنه كذّاب بالميلاد ولأنه يحب الحقيقة. يمثل لأنه سيجن اذا لم يمثل. التمثيل؟ وهل اعرف انا متى أمثل؟ وهل هناك لحظة اتوقف فيها عن التمثيل؟...". دائماً، استهواني هذا التوصيف البارع، السهل الممتنع، لحقيقة الممثل. قراءة عفوية وشفافة تركز على التركيبة الانسانية للممثل قبل مهنته. في المرة الاولى التي قرأت فيها عبارة الممثل كين، بطل مسرحية سارتر "الفوضى والعبقرية"، خطتها بحروف بارزة وجعلتها ورقة على الجدار. اعلان "سوء نيات". تعويذة مضمونة للاحتماء من قساوة "فلسفات" نظريات اعتزال التمثيل التي يسوّقها بعض الممثلين عند سؤالهم عن ذرائع "تنحيهم عن الساحة الفنية". حينما لا يكون مرض ولا عجز شيخوخة ولا ظرف قاهر، وحينما لا يكون لأولئك "المتنحين" سوى فيلم ومسلسل في ذاكرتنا، كحد اقصى، فإن التعويذة تنطق لتقول: "هؤلاء مدعون. انهم لا يحبون التمثيل. هم لا يجيدونه أصلاً". هنا، يتوجب اختفاء التعاطف وسد الآذان عن لغط المعاني المقفرة. لا أحد منا كان ليتعاطف مع فاتن حمامة لو قررت الاعتزال، حينما كان لها ان تفعل في وقت احتدام ظلمة اليأس والقهر الاستخباري الذي هجّر كبار فناني "أم الدنيا" من وطنهم وحال من "قرف" تجاه "الصنعة" تنتابهم. سناء جميل لم تفعل. امينة رزق. فريد شوقي مات يمثل. كمال الشناوي لا يزال نجماً يعتلي اسمه أسماء كل من يشاركه عمله. لبنى عبدالعزيز اثارت استياء جمهورها في تلك المقابلة التلفزيونية التي تحدثت فيها كي تتبرأ من تاريخها الفني. ارادت أن تطلب منّا ان نمحي ملامح حلوة من ذاكرتنا بعدما نظفت هي ذاكرتها. لم نغفر لها تعدّيها على صور جميلة احتفظنا بها، لكننا ارتحنا الى تصريحها، الذي كان بمثابة مفاجأة، حينما قالت انها "لم تحب التمثيل يوماً". صادقت بذلك على فحوى تعويذتنا، فارتحنا. ثم يأتي اولئك الشبان والشابات اليافعون ليعلنوا أن التمثيل يقولون الفن أرهقهم، أنهم تعبوا، اهتدوا، ارتدوا فقرروا الاعتزال. تملؤهم الثقة. يحزمون حقائب التمثيل كما يحزمون قراراتهم ليقولوا لنا أنهم اقوياء. أن لهم شخصيات واضحة تقرر أين ومتى تبدأ وتتوقف. "ان الممثلين لا يستطيعون تمثيل كل الشخصيات الا لأنهم بلا شخصية". تعويذة أخرى صاحبها دنيس ديدرو المستغرب في فن الممثل. هل هم ممثلون فعلاً؟ سؤال شجاع طرحه عاشق للتمثيل، ومناضل فني، اسمه نور الشريف في حديثه أخيراً الى قناة "دريم". هل فكر الشريف يوماً بالاعتزال؟ ثم يأتي الجدال في الدين والتحريم. خسرنا محسن محيي الدين. التحى ممثل شاب يملك أداء عبقرياً وقرر التفرغ آنذاك لمتابعة قضية البوسنة والهرسك. ضاعت منا عيون هناء ثروت الضاحكة. كوميديا سهير البابلي. ثم؟ لم يكد جيل يظهر كي يتحجب، بمجمله. على اي ضفة وقف هؤلاء؟ الدين ام الدنيا؟ طهرانية العزلة ام دنس الاضواء؟ أكان عليهم فعلاً ان يثبتوا اقدامهم على احدى الضفتين؟ هل أحبوا حقاً التمثيل؟ سؤال مكرر. في الثانية والسبعين من عمره، لا يزال الممثل العالمي والمخرج كلينت ايستوود يعتبر أنه أجبن من ان يتخذ قراراً بالاعتزال. ربما هي وضعية الاسطورة صباح في لبنان. ربما هي وضعية الفنان الحقيقي الذي تشكل فكرة الاعتزال بالنسبة اليه فزعاً من حال انفصال طوعي عن الذات والوجود، لا يرغب، ولا نحن بالتأكيد، بأن يخوض غمارها. أما اولئك "المرهقون" فليس لهم سوى الاختبار و.. التعويذة!