من بلاد محكومة بالعزلة وثقافة كراهية الآخر ومنع الاتصال به، الى بلاد منفتحة الى حد الفوضى. هذا التحول في العراق اليوم يأخذ ملامح الانفتاح الإعلامي، والاتصال من دون رقيب عبر شبكة الإنترنت التي انتشرت مقاهيها في بغداد حتى بلغت نحو 100، بعد ان كان عددها لا يتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة وتحت رقابة امنية مشددة. هذا الانفتاح شجع الشباب العراقيين ليكونوا زبائن دائمين لمقاهي الإنترنت وخصوصاً في أحياء بغداد الرئيسة. ففي حي المنصور يوجد أكثر من 15 مركزاً، افتتحت بعد سقوط صدام، ومنذ افتتاحها استقطبت الجامعيين وأساتذتهم، وخصوصاً الشباب. ويبدو ان البحث عن فرصة يمثل واحداً من الدوافع الأساسية للشباب لزيارة مقاهي الإنترنت. ويقول محمد سراج الدين 28 عاماً، الذي أنهى دراسته الجامعية في كلية الإدارة والاقتصاد قسم علوم تجارية ومصرفية: "أغلب الشباب يستخدمون الإنترنت للبحث عن فرص عمل، وأراهم يبحثون عن مواقع يزودونها بمعلومات شخصية عن تحصيلهم الدراسي وسيرتهم الذاتية، وبعضهم حصل على عنوان بريد إلكتروني لتسلّم رسائله من الجهات التي خاطبها". ويأتي الحصول على المعلومات في مرتبة مهمة بين الدوافع، كما يقول سراج الدين: "الإنترنت أضاف معلومات جديدة لذاكرتي وزودني بمعارف عجزت كليتي سابقاً عن توفيرها". ويؤكد الشاب نفسه ان عدداً من الشباب وجد فرصة عمل عبر الشبكة، "إلا ان صعوبة السفر حالياً واعتقاد الشباب بأنهم سيجدون العمل في العراق جعل بعضهم يعزف عن العمل في الخارج". ومن استخدامات الشبكة ايضاً، التحادث، خصوصاً مع الخطيب او الخطيبة، مع ان الأمر ليس سهلاً دائماً، كما يقول سراج الدين "لأنها لا تمتلك جهاز كومبيوتر، والكهرباء تنقطع باستمرار". ويقول مدير احد مراكز الإنترنت في حي المنصور الشاب عمران الجادرجي "يزورنا يومياً أكثر من سبعين شخصاً معظمهم من الشباب. دوامنا يستمر من الساعة التاسعة صباحاً وحتى التاسعة ليلاً، ومن بين زبائننا شابات وموظفات وجامعيات، لمسنا في ترددهن الى المركز الرغبة في المعرفة والاطلاع على المواقع". وحول إجراءات المركز في تحديد أنواع المواقع، يوضح "القاعة مكشوفة، وليس بين الزبائن من يرغب في الدخول إلى المواقع الإباحية إلاّ بأعداد قليلة، واعرف هؤلاء حين يطلبون الكومبيوترات التي توجد في مواقع معزولة، وطالبو تلك المواقع سرعان ما يتركوها بعد أن يرضوا فضولهم منها". وفي هذا الصدد يؤكد مؤسس المركز يقظان الجادرجي ان "المواقع ذات فائدة كبيرة، ومنهجي هو عدم وضع أي رقيب، بل منح الشباب حريتهم الكاملة في اختيار أي موقع يرغبون الاطلاع عليه، الرقابة يمكن ان تخلق ردود أفعال عكسية، والصحيح هو انتهاج الشفافية في التعامل مع الشباب". ويضيف أنه ألغى رقابته كأب لأبنائه وبناته، مشيراً إلى ان "التجربة الحرة هي خير رقيب لردع الظواهر السلبية". ومنهجه هذا عممه في تعامله مع الشباب الذين يزورون المركز يومياً. ويكشف الجادرجي عن وجود خدمة الدردشة والرسائل الصوتية، مشيراً إلى استخدام الرسائل المصورة قريباً في مركزه، "لأن الطلب على هذه الخدمة كبير جداً". انقطاع التيار الكهربائي يثير استياء الشباب الذين يخرجون نحو باحة المركز أو الكافتيريا الملحقة به، وفي انتظار عودة التيار، يتحدثون عن المواقع وما كشفه كل واحد منهم. احمد عبدالستار وجد في مراكز الإنترنت فرصة للتعرف على أصدقاء جدد: "الكومبيوتر أداة لشحذ الذهن والمخيلة، كنا سابقاً ولارتفاع أسعار خدماته ومواقعه المغلقة نتحسر بشدة، الأمر الذي يضيع علينا فرص الاطلاع". ويؤكد احمد ان "العراقيين سيكونون أكثر الشعوب تعلقاً بالإنترنت، نظراً لحرمانهم من هذه الخدمة الاتصالية المهمة في السابق". وتقول الشابة أفراح هاشم طالبة ماجستير - علوم حاسبات: "وجدت العديد من المصادر التي استفدت منها، ووجودي في المركز وفّر لي عناء البحث عن الكتب والمراجع". وحول توجه بعض الشباب نحو مواقع إباحية تقول: "الأمر يعنيهم، ولم يصادفني شخص قام بفتح موقع يخدش الحياء أثناء وجودي في المركز". ... يعود التيار الكهربائي بفضل مولد خاص بالمركز، فتنفرج أسارير الشباب ويجلسون على مقاعدهم، يتابعون التصفح بصمت. وفي ركن آخر تبدأ الاتصالات الصوتية، وتقلّص المسافات، وترسم الوجوه ملامح الاشتياق لأشخاص تركوا العراق قبل عشرات السنين. الشاب علي ستار يعرب عن إعجابه بهذه الخدمة: "اتصلت بشقيقي المقيم في السويد، وتحدثت معه بتفاصيل كثيرة، ولم أستطع أن أخفي دموعي، بعد ان سألني عن والدتي، التي غادرت الحياة قبل عام". مراكز الإنترنت في بغداد، تجربة ناجحة شجعت بعض أهالي المحافظات لتأسيسها وفتحها هناك، فكانت الحلة وكربلاء والموصل والبصرة أولى المحافظاتالعراقية التي وفرت خدمة الإنترنت للمرة الأولى بلا رقيب، باستثناء ضوابط الحياء، وخشية توجيه النقد من قِبل العراقيين.