الممثلة المصرية أمينة رزق التي رحلت قبل أيام، ظلت تمثل حتى الرمق الأخير. وإن كانت شاركت قبيل رحيلها في مسرحية "يا طالع الشجرة" التي لم تستطع ان تكمل دورها فيها، فهي أطلت قبل سنة في مسرحية "الليلة الثانية بعد الألف" وأدت فيها ببراعة دور "الراوي". هنا مقال عن أمينة رزق في دورها هذا وعن المسرحية التي تعتبر آخر أعمالها المهمة. كنت على موعد لمشاهدة العرض المسرحي "الليلة الثانية بعد الألف" في "مركز الهناجر للفنون" في القاهرة مساء الاثنين الثامن والعشرين من تشرين الأول أكتوبر الماضي 2002، وكان اهتمامي الأساس في حضور هذا العرض، مشاهدة أمينة رزق وهي تمثل على الخشبة حيّة. وقبل بدء العرض كنت أفكر كيف يمكن هذه المرأة وفي هذا العمر الذي تجاوزت به العقد التاسع أو أكثر أن تصمد طوال مدة العرض! حينما جلست في "مركز الهناجر" أترقب العرض... كنت أشعر بقدسية المكان. فإضافة الى عشقي المسرح، فإن من ستقف على الخشبة هذه الليلة فنانة أعطت كل حياتها للفن وأصبحت علامة من علامات الفن العربي وأحد أعمدته الأساسية. عاصرت أمينة رزق مراحل تطور الفن التمثيلي العربي وساهمت فيه وأثرت وتأثرت. وكانت تلك الليلة عندي مختلفة عن كل الليالي، لذا سجلتها كاملة على الورق الذي أحمله معي. وكلما كنت أحاول العودة الى مسوداتي لأكتب عن تلك الليلة القاهرية الأثيرة على نفسي أؤجل الكتابة، وأغلق مسوداتي، وأعود الى ليلة الثامن والعشرين من تشرين الأول عام 2002 وأتمتع بما بقي عالقاً في ذهني من مشاهد، أو في تذكر عشرات الأدباء والباحثين الذين كانوا يحضرون هذا العرض بدعوة من "المجلس الأعلى للثقافة" و"مركز الهناجر للفنون" في القاهرة. كانت المسرحية من تأليف الكاتب الراحل عبدالله الطوخي واخراج عصام السيد ومن تمثيل أمينة رزق، وخليل مرسي، وصفاء الطوخي، وسامي العدل. أعادت مسرحية "الليلة الثانية بعد الألف" أمينة رزق الى المسرح بعد انقطاع طويل عنه. وكأن القدر يريد أن ينهي حياتها من النقطة التي بدأت بها مسيرتها الفنية في العاشر من آذار مارس عام 1923 أو تحديداً من دورها في تمثيل الصبي الأعرج في مسرحية "دافيد كوبرفيلد" مع يوسف وهبي عام 1924. وإذا ما تركنا هذه التواريخ لبدايات أمينة رزق المسرحية، فإن التاسع عشر من تشرين الأول عام 1925 شهد انطلاقة كبيرة لفنانة عملاقة ظلت في دائرة الضوء منذ أن أسدل الستار على مسرحية "الذبائح" وحتى حينما غابت عن الدينا بعد أن شاركت في تمثيل ما لا يقل عن مئة فيلم وخمسمئة مسرحية وزهاء ثلاثين مسلسلاً تلفزيونياً، ومئات المسلسلات الإذاعية. هي الليلة الأولى بعد انتهاء ألف ليلة وليلة. فيها يتراجع شهريار سامي العدل عن تحقيق وعده بإطلاق سراح شهرزاد صفاء الطوخي، لأنه أحبها كما تقول الحكاية وما عاد يستطيع فراقها ولا بد من امتلاكها، لكن شهرزاد تصر على ترك القصر على رغم تدخل الوزير خليل مرسي، وعليه فإن شهريار "السلطة" يقرر ان يعتقلها. انه حب تملك السلطة لكل شيء حتى الإنسان، بل وعواطفه. هذه هي الحكاية كما تبدو من خلال التيمة العامة. ولكن هل فعلاً هذا هو المقصود من هذا العرض؟! وإذا كان كذلك، فأي سطحية يمثلها هذا العرض؟! اعتقد، لا... فالعرض المسرحي الذي شاهدته ولعبت فيه أمينة رزق آخر ادوارها المسرحية المهمة "الراوية" كان محملاً بالكثير من الرمزية، وله دلالات واسقاطات تتخطى المفهوم التقليدي للعرض. انه عرض لواقع يومي تعيشه الأمة العربية، يتخذ من الحكاية - الأسطورة سلًّماً للوصول الى غاياته ودلالاته واسقاطاته. فالعلاقة هنا بين شهريار وشهرزاد ليست علاقة حب، انما علاقة تملك. وهو يمثل نموذجاً للديكتاتور العربي الذي لا بد له من أن يمتلك كل شيء حتى عواطف الناس وتطلعاتهم وقراراتهم. لكن، هل يمكن شهرزاد أن تعيش آمنة من دون تغطية أو حماية شهريار السلطة؟! ثمة أسئلة يطرحها العرض وقد لا يمكنه أن يجد لها اجابات سريعة وحلولاً آنيّة. انها جزء من معاناة الإنسان العربي من خلال علاقاته الجدلية مع الآخر، سلطة كانت، أم سيطرة من نوع آخر، أو تقاليد تتحكم بهذا المجتمع وذاك. أسئلة ليست جديدة بقدر ما هي تتجدد كل يوم. هل العلاقة بين الرجل والمرأة تساعد في القضاء على مواقف الانتقام أو على المواقف التي يتحكم بها منطق سيطرة الرجل وسيادته؟ هل المرأة مملوكة ممّن أحبها يفعل بها ما يشاء بعد أن تفقد حريتها؟ هل الحب عبودية، كما يطلب شهريار؟ هل علاقة شهريار وشهرزاد نموذج لجنون العشق أم جنون التملك والسلطة والاحتواء؟ ان السياق التقليدي للمسرحية لم يكن مانعاً أو حاجزاً للكثير من الاسقاطات بعد أن فجر العرض عشرات الأسئلة. فالترميز الذي ذهب اليه العرض جعلنا نعتقد أن شهريار نموذج مسرحي لصدام حسين بهوسه ورعونته وجهله واسقاطاته. أم أنه اسقاط عام على الحاكم العربي، وصدام نموذج لهذا الحاكم، خصوصاً حينما نتلمس جهل شهريار بحركة التاريخ، وبأن الحرب هي أم الكبائر والخسائر والمآسي، لكنها هي أيضاً أم المتغيرات؟ يمثل شهريار هنا نموذجاً للسلطة العربية التي تستحوذ على كل شيء حتى على عواطف الإنسان بعد أن تتلبس السلطة جلد الرجل العاشق. هل يمكن ان يتحول شهريار الدموي السلطوي الى عاشق في زمن أعثر مثل الزمن الذي نعيشه؟ وهل يمكن شهرزاد نموذج المرأة العربية أن تثق فعلاً بأقوال الحاكم؟ اتخذ المخرج عصام السيد وسائل عدة لايصال ما أراد ان يرمز اليه أو يسقطه. فالإشارات والدلالات المختلفة كانت احدى وسائله، مثلما كان الجمع بين الأداء الحركي والغنائي وتوظيفه لمصلحة الدراما عاملاً آخر ومهماً. اضافة الى تعامله مع الديكور وتحريكه بذكاء يخدم العرض. فالديكور يتدرج بين قاعة العرش، أو الشارع... ما جعل منه واحداً من العناصر الاخراجية التي خدمت العرض كثيراً وأرست الشعور بمتعته، بما في ذلك الزاوية التي اختارها لتكون منطلقاً لأمينة رزق الراوية مع الأخذ في الاعتبار صعوبة حركتها ومحدوديتها نتيجة للسن والصحة. كان العرض محملاً بالكثير من الرمزية والاسقاط. فحركة التاريخ لا بد من أن تفضح رموز السلطة، وأن تبرز التناقضات والصراعات التي تدار خفية، وأن هذه الرموز لا بد من ان تسقط ما دام الفساد يتفشى في أوساطها، وأن الشعب لا بد من أن يتحرر مهما غالت السلطة في قمعه. وتعدّى العرض أيضاً السلطة العامة الى السلطة الخاصة بالإنسان وقدم صراعاً بين الرجل والمرأة مرتبطاً بالواقع السياسي والاجتماعي المبنيّ على التمييز الطبقي، وعلى حب التملك، وتحقيق رغبات بعض الناس على حساب الآخر حتى لو كان هذا الآخر هو الحبيب. كانت أمينة رزق أسطورة حقيقية في الأداء. فهي تمتلك مخارج حروف سليمة حافظت عليها على رغم تقدمها العمر، وكذلك قدرة على التلوين والأداء، ما أضاف الى العرض المسرحي هالة جميلة حققتها أمينة رزق ولا أعتقد أن غيرها يمكن ان يحقق ذلك وفق دور لو لم تكن أمينة رزق تؤديه لأصبح عاملاً سلبياً في العرض. ولعلنا ندرك حجم أو مساحة دور الراوي في مثل هذا العرض. وكان اختيار المخرج للراحلة أمينة رزق موفقاً كثيراً، بل أدخله التاريخ من أوسع أبوابه. فهذه الفنانة التي شكلت ابداعاً مميزاً على خشبة المسرح العربي، وعاصرت عمالقة الفن وتعملقت معهم، وتعلمت منها أجيال من الفنانين والفنانات حري بأن يفخر العاملون في هذا العرض بأنهم كانوا معها، مع الفنانة الأسطورة في احدى مسرحياتها الأخيرة. وأخيراً... خرجت شهرزاد... وخرج شهريار. فهل سيخرج الشعب ليحكم نفسه؟ لا أدري؟ انما الثابت ان أمينة رزق الأسطورة الفنية تنازلت عن ركب الحياة وترجلت ورحلت... الا انها ستظل في صميم تاريخ مسرحنا العربي، فهي شاركت في كتابته مثلما شارك هو في تخليدها! * كاتب ومخرج مسرحي عراقي مقيم في الامارات.