"كان شغف إحدى السيدات السوريات بالاستماع الى اغاني ام كلثوم واستعمالها الماكياج بعد اثنتي عشرة سنة من زواجها، دليلين كافيين على انها في حال عشق، ما دفع بشقيقها وعمها واثنين من ابناء عمومتها الى الإجماع على ضرورة قتلها، فنفذوا الجريمة امام اولادها الخمسة وبعيداً من عيون زوجها. وقال الأخ القاتل 24 سنة للشرطة انهم انتظروا مغادرة زوجها الى العمل وعندما فتحت لهم الباب انهالوا عليها طعناً بالسكاكين، ولم يكن ذلك كافياً لقتلها فأكمل العم عليها بمسدسه". حدثت هذه الجريمة سنة 2001 وكانت خبراً لافتاً في كل الصحف المحلية وكذلك العربية، بما فيها جريدة "الحياة"... وهي اليوم قصة فيلم جديد انهى تصويره اخيراً المخرج السوري محمد ملص، ولم يزل الاسم متأرجحاً بين "شمس الأصيل" و"باب المقام". عنف اجتماعي الصدمة التي اصابت المخرج لحظة قراءة الخبر جعلته يحتفظ بقصاصات الصحف المتحدثة عنه، ولم يعرف يومها لماذا، لكنه شعر بأنها أكرة تفتح على بوابة فيها ما يعنيه وهو"العنف الاجتماعي" الناشئ عن غياب الذات والفردية والحس والمعيار في مجتمعاتنا وعن قوة رد الفعل في غياب المرجعيات الإنسانية الفعلية بمن فيها المرجعيات الدينية. لطالما رسم محمد ملص في افلامه ملامح الإنسان السوري بتألقه وانكساراته، وإذا كان الهم الديموقراطي شغله في فيلم "احلام المدينة"، وهم انكسار الحياة المدنية وظهور العسكريتاريا في "الليل"، فإنه في "شمس الأصيل" ملتفت الى هم آخر هو، بحسب قوله "العنف الكامن والمتشكل بجموح في وجدان المجتمع بعد غياب طويل للحياة المدنية والاجتماعية... ربما احاول ان أنير ضوء التنبه الى مدى العنف العشوائي الموجود اليوم في المجتمع السوري من خلال حكاية واقعية حصلت سنة 2001". إذن اختلف الهم هذه المرة، وبعد ان ركز المخرج طويلاً على تصوير الواقع السياسي وانعكاساته وتأثيراته في الأفراد، يلتفت اليوم الى الواقع الاجتماعي محاولاً كشف خباياه وتشريحه من دون غياب الواقع السياسي للرابط الوثيق بينهما. ويعلق قائلاً: "لا يمكن من يشاهد "احلام المدينة" القول ان المجتمع غير موصوف بذهنيته وعاداته وتقاليده، واللحظة السياسية التي يتحدث عنها الفيلم. كذلك فيلم "الليل"، إذ يمكن من خلاله مشاهدة المجتمع متمثلاً بالعشي وأسرته وما تعكسه من قيم وعلاقات وتخلف، وفي الوقت نفسه نشاهد القادمين للالتحاق بالثورة الشعبية في فلسطين. في فيلم "شمس الأصيل" الأمر لا يختلف، المختلف هو سورية اليوم، والمجتمع في مدينة مثل حلب، والأجواء الوطنية والسياسية والاجتماعية المحيطة بالحدث الرئيس الذي يرويه الفيلم، وعلى المتلقي في النهاية وضع الأسئلة والاجابة عنها أثناء المشاهدة وبعدها...". فما نراه اليوم من قسوة اجتماعية ليس إلا انعكاساً لقسوة سياسية وجملة انكسارات حوّلت الهم الانساني من القضايا الكبرى الى الصغرى. فبعد أن استُبيح شرف الأرض مثلاً، أصبح الهم هو الحفاظ على شرف المرأة، ما زاد من قيودها وضيّق الحصار عليها. ثم ان المرأة نتيجة ما فرض عليها من قيود دينية واجتماعية وقانونية... وجدت لنفسها طرقاً ملتفة للتعبير عن ذاتها ورغباتها وتمردها... ما يوفر مادة غنية لأي مبدع. وحول هذا يضيف محمد ملص: "في البدء كانت المرأة... والاختلاف لدي بين الأفلام بالنسبة الى موقع المرأة ليس في الحدث بل في المجتمع، كما يختلف موقعها في السرد السينمائي... فإذا كانت المرأة في "الليل" هي الراوي، وفي "أحلام المدينة" هي الرواية، فهي في "شمس الأصيل" الضحية". بين الرقابة والتلصص ربما كان الدخول الى خبايا مجتمع قاسٍ كهذا من أصعب الأمور، لما يحيطه من تكتم وتستر، والاقتراب من المحظور وكشفه يفرضان حالاً من التلصص تتناسب مع الحال الممارسة في الفيلم. فهل كانت عين الكاميرا الكاشفة كمراقب خارجي، أم متلصصة كواحد من أفراد هذا المجتمع؟ نفى المخرج كونه مراقباً خارجياً للأمور. فهناك فارق بحسب رأيه "بين الرؤية الداخلية في السرد، والاستعانة في التلصص لجزئيات السرد ولتأكيد لحظات محددة بهدف التلامس والتقارب من عالم السرد وعلى الأخص عالم المرأة... التلصص السينمائي ليس رقابة خارجية بل هو زاوية من زوايا الرؤية، للتعبير عن جماليات معينة مستمدة من البيئة وتكشف في الوقت ذاته عن قيم وعلاقات في هذا المجتمع". في "شمس الأصيل" حوّل المخرج التلصص الى أداة من أدوات الشخصيات لحبك مؤامرة القتل، فلم يكن التلصص بالضرورة زاوية للسرد بل جزءاً من تكوين الفيلم، وأصبحت الشخصيات هي المتلصصة وليس المؤلف. ربما تماهى المؤلف مع شخصية حضرت في الفيلم مصادفة ولم تكن في السيناريو وهي شخصية رجل "منغولي" كان يحب الاستماع الى صوت المرأة الضحية وبالتدريج تحول الرجل الى الشاهد والمصاب كما هو مؤلف الفيلم. والمؤلف هذه المرة ليس المخرج وحده كما اعتدنا في الأفلام السورية، بل اعتمد المخرج على الروائي خالد خليفة الذي سبق أن كتب أعمالاً درامية للتلفزيون. وان كان للكتابة المشتركة مشكلاتها، فبالمقابل لها ميزاتها، خصوصاً إن جمعت بين فكر كاتب وتحليله وعين مخرج، إلا أن الإبداع في النهاية فردي ولكل اختصاصه، لذا لا بد من تجاوز مرحلة الشراكة سريعاً للبدء بمرحلة الاختصاص وتحديد المهمات. يوافق هذا رأي المخرج الذي يعتقد ان كل المعطيات الأولية تشير الى ان الكتابة المشتركة هي وهم، فالصرخة لا يمكن أن تحدث بصوتين، وربما كان خياره السينمائي يزيد من وهم هذا الإمكان، إلا ان اللجوء اليها يستند الى الاحتياج أو الحب والتقدير، ويضيف: "تجربة الكتابة المشتركة حتى اليوم في الأعمال التي حققتها أتاحت لي الفرصة لصوغ الفيلم وفق ما يراه المؤلف السينمائي وليس النص وعلى الأخص أنني أعتبر النص مقدساً حتى يوم التصوير إذ تكسر فيه قدسية النص المكتوب. في "شمس الأصيل" كان الاحتياج والتقدير دافعي الى اللقاء والعمل مع الروائي خالد خليفة. منذ أن تعرفت اليه، لمست فيه انساناً ينتمي الى حلب والى البيئة الشعبية فيها، ومنذ قرأت روايته "دفاتر القرباط" ترك في نفسي تقديراً كروائي، وحينما قررت ان تكون أحداث الفيلم في حلب اقترحت عليه الكتابة المشتركة لهذه الحكاية فكتبنا وتركني بعدها حراً لتحقيق الفيلم...". انتاج مشترك تحمست للفيلم جهات منتجة عدة فرنسا، تونس، سورية، ما دفعها للمساهمة في تحقيقه. فانخرطت شركة Cinژ Tژlژ Film كمنتج مشارك وقدمت بعض المعدات، ومدير التصوير ومهندس الصوت وجزءاً من المساهمة المالية للتصوير. ثم أخذت شركة "دنيا فيلم" السورية على عاتقها أن تكون المنتج المنفذ والمساهم في الانتاج. ومنذ البداية تبنت شركة Cinژ TV المشروع وأبدت الاستعداد للمساهمة في انتاجه وعلى الأخص في الجانب التقني المتمثل في مونتاج الصوت والميكساج والتحويل من ديجيتال الى سينما. فقد استخدم محمد ملص هذه المرة كاميرا الديجيتال، فهل كانت بديلاً وحلاً انتاجياً، أم أنه تعامل معها ضمن امكاناتها الخاصة والمختلفة؟ لا يجد المخرج في الديجيتال وسيلة لخفض كلفة الانتاج، بل تقنية مختلفة ومساعدة على اعادة تغيير لغة السرد والتعبير، و"محاولة التجديد هذه لن تتحقق دفعة واحدة، بل بعد تراكم تجارب متعددة للخروج مما ألفناه...". كما انه يثق بأن تجربة إثر أخرى ستساعد السينما السورية، بحسب رأيه، على "التحرر من سطوة المؤسسة كمنتج وحيد". وعلى "تجديد الطاقة واللغة السينمائية عبر امكانات التعامل مع الصورة الرقمية، بحيث يصبح الشريط السينمائي نتيجة لهذا اللعب مع الصورة الرقمية، وأقول كلمة لعب لأنها تعبير عن التحرر من الامكانات المحدودة للصورة حينما تكون متحققة عبر النيغاتيف والطاقات الفيزيائية والكيماوية للشريط... ما هي النتائج؟ هذا أمر متروك للمتلقي بعد المشاهدة وهو الذي سيكتشف ويلاحظ هل ما زلنا نراوح في مكاننا أم أن الديجيتال حملنا الى ضفاف جديدة...". ويبقى السؤال: هل سينير هذا الفيلم بقعة لم يسبق أن التفتنا اليها، خصوصاً أنه يتعرض الى واقعنا اليوم، الواقع الذي نادراً ما نراه في أفلامنا السورية؟