في اي لقاء صحافي مقبل لن يتحدث صاحب "الليل" عن الماضي السينمائي بكل ما يحمله من آلام وتطلعات بل عن اشياء جديدة، وعن انعطافة في الحياة المهنية، تكاد ترقى الى مستوى الحل!! هكذا يريد المخرج السينمائي السوري محمد ملص ان يقفز فوق عثرات العمر الإنتاجية التي ألمت حتى بفيلمه الجديد "شمس الأصيل"، ومن قبل ان يبدأ تصويره في مدينة حلب السورية منذ اقل من شهر. فبعيداً جداً عن اسوار القطاع العام يعود ملص مفرداً ووحيداً ليرسم ملامح تجربة جديدة في مشروعه تعتمد على "محاولة التحرر من الأسلوب الذي تحكّم في هذا القطاع وآلية انتاجه" والتي جعلته ينتظر طويلاً بعد تحقيق رائعته "الليل" منذ اكثر من عقد. وبعد تعطيل مشروع سينما الدنيا. ها هو يقدم في فيلمه "شمس الأصيل" على تجربة اكثر جدية من سابقاتها، ويبدو انها تعكس مرارة شخصية بالدرجة الأولى جعلته يتخذ من واقعة الديجيتال وأرقام المعاشرة السينمائية السرية وسيلة للوصول الى تصور سينمائي بموازنة مخفوضة تكاد تكون اقل بكثير من خُمس موازنة الأفلام التي تنتجها المؤسسة العامة للسينما. الديجيتال الحنون وفيلم "شمس الأصيل" هو تجربة جديدة في الموضوع والأسلوب والإنتاج، وتدور احداثه في مدينة حلب ومع ممثلين حلبيين شبه مهملين ومغمورين. والفيلم - يقول ملص - انعطافة "لأنه يقوم على ركيزتين مختلفتين. الركيزة الأولى: سينما غير تجارية ومستقلة عن القطاع العام. والثانية: اللجوء الى الديجيتال - وهو هنا يبدو حنوناً ورائقاً اكثر من اي وقت مضى - في بعده التقني الذي يتيح اكثر من فرصة لتثوير الفيلم بسهولة فنية وإنتاجية. وهو انعطافة في التجربة برمتها، ولكن في بلدنا الكثير من الانعطافات غالباً ما تكون عابرة ولا تتراكم بحيث تحدث بعداً انعطافياً في السينما، وهي لا تراكم نتائجها مع التجارب الأخرى، ولا تستدعي حالاً من التأمل، ولذلك نحن مجتمع متخلف... كل منا يغني على ليلاه، وكل واحد لا يعبأ بتجربة الآخر". وإذ لا ينأى محمد ملص بفيلمه الجديد عن الإجابة عن مغزى اختيار حلب مكاناً حتى "يطلع علينا القمر ويغيب كأنو ما كان"، فإن حلب معروفة بحب اهلها وميلهم الفطري الى الغناء، وتراثها الموسيقي الكبير، الذي يسمى بين العرب ب"مدرسة حلب في الغناء العربي"، إنما يوضح واقعة الميل عند الحلبيين، والذي يصبح في زمن التحولات العاصفة شبهة ودليلاً كبيراً على الاثم، والظن، والقتل. "والفيلم يرصد هنا تحولات حاصلة في المجتمع السوري، وهو إذ يشرّح العنف وبواعثه" فإن مقصد حلب نفسها انما لتكون المفارقة اكبر، والجريمة لها اعمق الأثر في النفوس اللاطية في طين الظلام والتوجسات. فقد تغير المجتمع بدرجات كبيرة، وبطريقة تعسفية، كما يقول ملص، بحيث يلاحظ ان كثيراً من الحالات الاجتماعية والمفاهيم والطقوس والتقاليد تغيرت وأنه "آن الأوان لتناول كل تلك الشعارات عن العدالة الاجتماعية والتحولات التي رافقتها والتي ابطأ فيها الغناء في التعرف الى الذات وأصبح مصدر شبهة"، فالفيلم هو حكاية عن الغناء والشغف بالغناء، يتحقق فيه القتل المجاني الأعمى بالطريقة ذاتها التي يشغف فيها المرء المسالم بمحبوبته تحت شمس الأصيل. ويؤكد ملص في سياق مختلف ان الطموح الى إحداث نقلة نوعية في حياته المهنية، تكمن وراءه محاولة للخروج من المأزق. وعلى سبيل المثال، فإن الصراع العربي - الإسرائيلي في مأزق، لأن المقاومة في مأزق، والصهيونية في مأزق ايضاً، وعليه فإن الخروج من المأزق هو نقلة نوعية في حال الصراع، وليس هناك عربي يحلم بإحداث نقلة ...، ولكنه يحلم بالخروج من مأزق الصراع، الذي لا يمكن الخروج منه إلا بإحداث نقلة نوعية. الجرح الرقمي هذا الطموح الأكثر جدية في "منامات" محمد ملص إنما يخرق طبيعته، فهو يعود في حججه الى نص كتبه عام 1966، وفيه قبس من اعترافات روسو يتحدث عن المتناقضين اللذين يجمعهما في داخله: حدة العاطفة، والتأمل، وهذا ما يدفعه لاتخاذ قرارات بعيدة المدى. وعلى رغم ان ذلك لا يتفق الآن مع طبيعة ملص فهو صاحب حدة عاطفية مشبوبة، ولكنه عدو للتأمل بطبعه، فإن الانعطافة الكبرى في انقلاباته المتأملة تخفف موقتاً من العداوة الجديدة والطارئة، فما هو معروف عن ملص شغفه بالتأمل بغض النظر عن الانكسارات التي احاطت بمشاريعه في العقد الماضي... والآن فإن واقعة الديجيتال تخفف من هول العداوة وتؤانسها لأن "الخروج من المأزق ليس مسألة شخصية"، ويبدو ان ملص وضع اصبعه وحده على "الجرح الرقمي" فاتسعت دائرة المعاناة، ولكن ضاقت عبارة "السينما السورية في ازمة"، وهذا ما يريده صاحب "الليل" من بطلته وهي تُشغف بأم كلثوم وتذبح بنصل سكين القضايا الكبرى، بقدر شغفها بالنص السينمائي المفتوح الآن في سورية على كتابة مختلفة تعيشها سينما ملص، ولكنها لا تشكل قطيعة مع افلامه، لأن الشغف وافد فيها كلها.