خلال الأيام القليلة الماضية عاد المخرج السوري محمد ملص ليقف وراء الكاميرا، بعد غياب طال نحو عشر سنوات، ليحقق فيلماً روائياً طويلاً ثالثاً له، عنوانه هذه المرة "شمس الأصيل". المخرج الذي عرف على نطاق عربي وعالمي واسع خلال العقدين الاخيرين من خلال فيلمين حاز كل منهما مكانة اساسية في تاريخ السينما العربية، وهما "احلام المدينة" و"الليل"، ليدخل اليوم، انطلاقاً من مدينة حلب في الشمال السوري، تجربة التصوير ب"الديجيتال" مثله في هذا مثل الكثير من زملائه في البلدان العربية وغيرها راجع نصاً حول هذا الامر في هذه الصفحة. وفي انتظار توافر المعلومات والتفاصيل عن هذا المشروع الجريء والطموح، ننشر في ما يأتي نص حوار كانت اجرته الاعلامية المعروفة ريتا خوري مع محمد ملص، وتنشره - مع حوارات اخرى عدة اجرتها مع عدد من كبار المثقفين والفنانين العرب ومن بينهم ادونيس ومحمود درويش ومحمد برادة وطاهر بن جلون - في كتاب يصدر لها خلال الاسابيع المقبلة عن "دار الآداب" في بيروت في تجربة هي الاولى لها مع الكتابة والنشر. وهنا اجزاء مطولة من هذا الحديث الذي يضع سينما ملص في اطارها العريض، تاريخياً وفنياً وفكرياً، في انطلاق من المناسبتين معاً: مناسبة عودة ملص الى السينما ومناسبة نشر ريتا خوري كتابها الاول. حصّلت دراساتك السينمائية في موسكو في الفترة الممتدة بين عامي 6819و1974. ومن يتابع بدايات محمد ملص حتى اليوم يلاحظ أن بلدة "القنيطرة" كانت وما زالت الهاجس الأول في أعمالك. نذكر مثلاً فيلم "قنيطرة 4" ثمّ "الذاكرة" العام 1975. إضافة الى محاولة غير تسجيليّة للدخول في ذاكرة إحدى الشخصيات النسائية التي لم تغادر القنيطرة أثناء الوجود الإسرائيلي عنيت السيدة وداد ناصيف. فضلاً عن فيلم "منام" حيث استعرضت "منامات" فلسطينيين يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان. وفي السياق نفسه يأتي فيلمك الأخير حتى الآن "الليل"، عاكساً بوضوح علاقتك الحميمة ب"القنيطرة". ماذا عن البدايات؟ ولماذا القنيطرة؟ - أولاً، أعتقد أن تساؤلاتي في هذه المرحلة تدور حول هذه النقطة بالذات ما دفعني الى القاء نظرة على مجمل أعمالي والمساحة الكبيرة التي كرستها للقنيطرة، اذ ارتسمت عندي علامات استفهام كثيرة لم أجد لها جواباً. فما هو هذا الرابط الذي يجذب الإنسان الى مسقط رأسه؟ مسقط الرأس حيث يلامس الإنسان الأرض وطبيعتها للمرة الأولى، فتتبلور علاقة تنتمي الى عالم من الغموض، علاقة تقترب من الميتافيزيقية، تتطوّر وتتحوّل تدريجاً الى هاجس، طالما بقي هذا الإنسان ملوعاً بجرعة الهواء الأولى وارتباطه الوثيق بها. لوعة تتجذر أكثر فأكثر إذا ما تعرض مسقط الرأس لاحتضار ما، ما يخلق في الإنسان حافزاً لاعادة بعث الحياة في مسقطه بأي طريقة من الطرق. أما بالنسبة إلي فسلاحي هو التعبير، إن على مستوى الكتابة أم على مستوى المحاولات الكثيرة التي قمت بها، خصوصاً كل ما يدور حول القنيطرة حيث أعطيت من عمري ما يزيد على عشر سنوات بكل ما أوتيت من صدق وعمق في التعبير، كل ذلك كي أوصل رسالة مفادها أن هذه المدينة كانت يوماً تعج بالحياة واليوم وبعد أن سلبت منها، الطريق الوحيد السانح أمامي لاعادة إحيائها هو الخيال المتجسد بأعمال فنّية، ولعل هذا هو الهاجس الذي دفعني الى تكريس كل ذلك الوقت لهذه الأعمال. إضافة الى أن الهموم الإبداعية والتعبيرية هكذا ما تحُبك عادة. فخيط الدنتيل سينسج في آخر المطاف ليعطي قطعة قماش متكاملة تكتمل بموت الإنسان. أما التفسير الأفضل لهذا الارتباط فينبع من العلاقة المتولدة من الأعمال نفسها إذ عندما يعجب مثلاً أحد مشاهدي فيلم "الليل" بالقنيطرة أو تترك هذه المدينة أثراً في داخله يكون قد روى في داخلي شتلة بحاجة الى الري المستمر كي لا تذبل وتموت. تصفية حسابات اعتبرت في أحاديث صحافية كثيرة أن فيلم "الليل" جاء محاولة لتصفية حساب مع الماضي بما حمله من أوجاع وجدانية طفولية هل انتهيت من تصفية حساباتك؟ - في الحقيقة تشبه تصفية الحساب عملية انطلاق الفراشة من الشرنقة ورغبتي هي في ثقب هذه الشرنقة والخروج منها نحو هواء آخر، هواء يبدو جديداً، إلا أنه في الحقيقة هو نفسه، أما الفائدة فالإحاطة بالموضوع وتجسيد الواقع الراهن بالمعنى الشخصي والإنساني، إذ لم أحاول في أي من أفلامي أن اقدم الماضي من دون علاقته بالحاضر أو بارتداد صداه على الحاضر، سواء بما يحتويه من أفكار أم بالطريقة التي أصوغ بها العمل السينمائي، الذي يشكل في كل الأحوال خطاباً مهماً ومعاصراً، ليس على مستوى الاهتمام بالمرحلة التاريخية فحسب بل أيضاً على مستوى اللحظة الإنسانية الراهنة. وتصفية الحساب مع الطفولة بهذا المعنى تبدو لي وكأنها لحظات عذاب وأوضاع أرغب بالتخلص منها، كما بإلقاء نظرة على ما يدور في داخلي من موضوعات وعلاقة هذه الموضوعات باليوم. نظرة يمكن أن تحمل اصطلاحاً يسمى بالخسوف الروحي، إلا أنني في الوقت نفسه أرغب فعلاً بالتمكّن من إنتاج فيلم يتحدّث عن اليوم أكثر مما يتحدّث عن الماضي فقط أو عن اليوم وعلاقته بالماضي. رغبتي أن أنتقل الى المرحلة التي أتكلم فيها عن الحاضر بمعنى العمر وليس فقط بمعنى الرّاهن. العمر أي التحولات التي تطرأ على العالم الداخلي للإنسان وما هي نظرة هذا الإنسان لهذا العالم عندما يتجاوز سن الأربعين. بهذا المعنى يمكن أن تشكل هذه التجربة منطلقاً أساسياً لتصفية الحساب مع الطفولة ومحاولة إغلاق هذا "الألبوم" واستبدله بالمرآة بدلاً من ألبوم عن الماضي والحاضر. تتكلم عن اليوم وعلاقتك بالماضي وقد عكست في فيلم "الليل" واقعاً، بدأ للأسف يندثر مع الأيام، أي مفاهيم الوطنية والبسالة والإحساس العام بالمسؤولية. فهل التعبير وأحاسيس البطولة التي اتّسم بها الفيلم لا تزال نفسها في يومنا هذا؟ - ما لا شك فيه إن القراءة السينمائية للفيلم تظهر توجهاً واضحاً نحو الرثاء. إذ في داخلي شعور بالحسرة والمرارة غالباً ما يتجلى في أعمالي برثاء لهذا الماضي: ماضي مدينة لم تعد موجودة وشخصيات ماتت قهراً أو تمنيت لها موتاً مختلفاً. من اللافت للنظر أيضاً إدخالك في سينماك ألفاظاً جديدة غير مألوفة في السينما العربية، فما العبرة من ذلك؟ - لا أدري ماذا تقصدين بقولك هذا، فهل يعني ذلك أن الحوار أو السرد الأدبي للنص أو العبارات المستخدمة غير مألوف استخدامها في السينما العربية؟ بالنسبة إلي ليس هناك من حاجز يمنعني. فالشخصيات تنطق بالكلمات والمفردات المستعملة في مجتمعنا والنابعة من شوارعنا وعاداتنا. فالسينما الغريبة عن بيئتها مرفوضة، لذلك لم أشعر بأيّ إحراج في تسمية الأمور بأسمائها واستنطاق الشخصيات بالكلمات النابية، إذ أن هذه الكلمات هي الملائمة طالما أشعر بصدقها ودقتها. وماذا كنت لتقولين لو سمعت الكلمات التي استخدمتها أثناء التصوير والتي تسمى بلغة الأدب والأخلاق أكثر من نابية، إلا أنني وتماشياً مع الممكن والحياء العام الضروري احتفظت بالحد الذي يجعلني أستنطق الشخصيات بصدق من دون ما يمكن اعتباره خيانة لهذه البيئة. تعاملت في الماضي مع مخرجَين أثبتا وجودهما في السينما السورية، عمر أميرالاي وأسامة محمّد، أليس من النادر أن نجد هذا النوع من التعاون ضمن إطار المهنة الواحدة؟ - الحمد لله ومن كل قلبي أقولها، اننا نحن الثلاثة ليس في داخلنا شيء اسمه "الكار" إنما طموح مشترك. فالسينما بالنسبة إلينا هي هذا التآلف الكبير في التعبير إذ سبق وكنا أصدقاء متقاربين جداً، ومتفاهمين جيداً ولكن مختلفين. ففي داخل كل منا طاقته الوجدانية الخاصة وإمكاناته ومواهبه للتعبير عن نفسه. والسينما في الظروف التي عشناها حتمت أن يشعر كل منا بحاجته الى وجود الآخر، ليس على الصعيد المعنوي فقط بل أيضاً الوجود الذي يبدأ بالحوار الداخلي بصوت عالٍ. وبصراحة متى كتب أحدنا أمراً نكون أول المطلعين على مضمونه فتجربتنا تمتد لسنوات طويلة ولعل هذه السنوات هي التي حمتها. إضافة الى الاحتياج الحقيقي والفعلي المتبلور في امتحان طاقات التعبير وامتحان المشاريع وسد النواقص. هذه النواقص التي يمكن أن تنمو في كل مرحلة من مراحل العمل السينمائي إن على مستوى الفاعلية أم على مستوى النظرة النقدية للعمل أم لجهة صوغه، إذ دائماً ما يوجد في داخلنا نحن الثلاثة ذلك التراث العميق المتجلي في العمل المشترك والذي كان "الليل" آخر شكل من أشكاله ان كنا متقاربين جغرافياً أم لا، وقد كنا أنا وأسامة دائماً كذلك، يعرف كل منا اللحظة التي يجب أن يقف فيها مع الآخر. وشكل فيلم "الليل" الإطار الأكثر وضوحاً لهذا التعاون. أما في "أحلام المدينة" و"نجوم النهار" فكنت وأسامة فقط بينما عمر أميرالاي كان يعمل في مكان آخر. وأصارحك اليوم بكثير من الخصوصية أنه إضافة لتقديري الكبير لكل من عمر أميرالاي وأسامة محمد، هما يخيفانني، إذ أشعر بأنهما يستطيعان أن يصنعا سينما أفضل مني وقد شكلا عاملاً تحريضياً لي. ولا أعلم مدى انطباق هذا الأمر عليهما. أما في ما يخصني فذلك واضح. إذ أجزم اليوم أنه من دون "نجوم النهار" ما كان فيلم "الليل" ولو كان "نجوم النهار" أقلّ شأناً مما هو عليه لكانت مهمتي أسهل بالتأكيد. فوجود أسامة وعمر في السينما السورية شكلا حافزاً إضافياً كي أتقدم. الأم ودورها تربط محمّد ملص علاقة مميّزة جداً بوالدته. وقد جسدت صباح الجزائري شخصية الأم في فيلم "الليل" وياسمين خلاط الدور نفسه في "أحلام المدينة"، بالنسبة اليك مَن مِن الممثلتين هي الأقرب الى شخصيّة أمّك؟ - من سوء الحظ أن الممثلة ياسمين خلاط شاركتني في فيلم واحد، وكنت أتمنى لو تعاونا في أكثر من فيلم لأنني أراها ممثلة ممتازة. أما لناحية المقاربة وإذا ما أردت أن تجريني إلى هذا الجواب، فممّا لا شك فيه أنني أيضاً مارست نوعاً معيناً من اللعب مع المتلقي والصحافة منذ "أحلام المدينة" الذي أعتبره محاولة خلق أو إفصاح عن تقارب قد لا يوازي التقارب الفعلي أو الواقعي لأنني أعتقد بأن الأم الحقيقية هي الأم التي تشتهي الصورة التي تظهرها بها السينما أكثر ممّا يمثلها الواقع. فإلى حد ما العلاقة مع الشخصيات الواقعية في فيلمي "أحلام المدينة" أو "الليل" هي علاقة شرطية لأن متطلّبات تحوّل الشخصية الواقعية إلى شخصية درامية ذات حضور، تستلزم أن يشتغل عليها وأحياناً خلق مجموعة من الصور، التي تخلق بدورها علاقة منسجمة في رسم شخصية من الشخصيات الدرامية المعينة. فالمقاربة إذا هي حول هذا الطموح سواءً في فيلم "أحلام المدينة" أم في فيلم "الليل". لكن مما لا شك فيه أن شخصية الأمّ في "أحلام المدينة" هي شخصية أكثر قرابة إذ أعتبر أنني جرّبت أدوات التعبير وامكان البناء بصورة مختلفة عن المطامح الكبيرة اللي جعلتُها تقودني لرسم شخصيات فيلم "الليل". أما السيدة صباح جزائري التي تعاونت معها للمرة الأولى وأتمنى أن نتابع معاً في المستقبل فأعتبر أنها قدمت وضحّت بالكثير ما أثمر نتيجة جيدة للعمل في شكل عام في ظل تضافر جميع العناصر المشاركة في إنجاح الفيلم. وهنا آمل أن تتاح لي الفرصة كي أتعامل مع هذه الممثلة الممتازة من خلال لعبها أدواراً متنوعة تفصح عنها بصورة أفضل ممّا أدته سابقاً. ويبقى أن المقاربة فيها شيء من المبالغة إذ أنني شخصياً أقع في خطأ كبير عندما أشاهد "أحلام المدينة" أو "الليل"، خصوصاً "أحلام المدينة" لأنه يعود الى فترة زمنية أطول إذ تختلط ذاكرتي بين الأم الحقيقية والأم في الفيلم. وفي لحظات معينة أحتاج الى بذل مجهود وتركيز دقيق لكي أتذكر إذا كان المشهد حصل في حياتي الواقعية أو أنه مجرد تركيب سينمائي فحسب. من جهة أخرى، من المفيد الإشارة في هذا السياق الى أنني اشتغلت على جانب من جوانب الأعمال السينمائية في بلدي سورية، هذا الجانب ذو العلاقة بكون المتلقي في حاجة الى شيء يتّكئ عليه إذ عادة ما يتكئ هذا المشاهد مثلاً على التاريخ وتصبح القضية، صحة هذا التاريخ أو عدمه. كما قد تتكئ أيضاً على القصّة الواقعية شخصياتها الحقيقية إذ يبدو لي أن المرجعيّة الوثائقية والواقعية سواء للتاريخ أم للشخصيات لا تزال هي الهاجس الذي يساهم إلى حدّ كبير في صدقية الاستقبال. فالمرجعية الثقافية البصرية ضعيفة عند المتلقي العربي. وأخيراً عرض على الشاشات مسلسل درامي متوسط القيمة الفنية يدور حول الحياة المعاصرة في سورية وقد لاحظت عند الناس سعياً لالباس شخصيات هذا المسلسل وجوهاً واقعية. وهذا ما نراه أيضاً في المسلسلات التاريخيّة كالتي تناولت أخيراً السادات أو محمد حسنين هيكل حيث المرجعية عامل مساعد للمتلقي العربي سواء البسيط أم الأكثر ثقافة. وهذا ما أرى فيه عاملاً سلبياً في شكل عام. أما لجهة أعمالي الخاصة فقد حاولت المزج بين الرسم الإنساني والاجتماعي للشخصيات بالعلاقة مع المرحلة التاريخية ومع الحدث الوطني والسياسي من دون أن أنكر أن ذاكرتي شكلت دائماً مُتّكأ لرسم شخصيات أفلامي ذات الجذور الواقعية، من دون أن أعني بذلك حصراً أن الأسرة الضيقة هي مرجعية السينمائي أو المؤلف وأن كل إلهامه يأخذه عن معرفته المباشرة بالأم مثلاً. وهذا موضوع مهم إذ يحمل في داخله عدداً كبيراً من الأسئلة ذات العلاقة بالإبداع والاستقبال والتي تتطلب بُعداً نظرياً أكثر من البعد الواقعي. ففي "الليل" من اختيار الاسم إلى الشخصية، اتكأت على ذاكرتي. جزء بسيط يعود الى شخصية والدتي، وجزء آخر مستمدّ من خبرتي ومعرفتي بشخصيات عايشتها عن حق. من دون إخفاء أن شخصية "على الله" الأب لا تمت بصلة الى شخصية والدي. إلا أنني في عملية البحث عن الأب رسمت في الحقيقة شخصية فيها نكهة ما من شخصية أبي. وبذلك كان الهم الجوهري في البحث في شخصية "على الله" هو والدي. ومع هذا أتى الواقع في السيناريو أولاً ثم في الفيلم ليدل الى ابتعادي أكثر فأكثر عن أبي وعن الكثير من ملامحه، وربّما في واقع الحال، اشتهيت أن يكون أبي "على الله" في فيلم "الليل" ليس فقط في موته الواقعي بل أيضاً في موته المشتهى. المرجعية والرغبة هل هناك تعارض بين ما سميته "الاتّكاء على المرجعيّة" ورغبة المشاهد في التماهي مع الشخصيات التي يراها على الشاشة؟ - في الحقيقة المشاهد العربي محروم من أشياء كثيرة فكيف لي أن أحرمه من حقه بالتعايش والتماهي مع الشخصيات التي يراها. ففي واقع الحال إن هذه الأشياء تنشأ عن احتياج وجداني كون الناس محتاجة الى ما فقدوه في الحياة ولا أخفي عليك مدى سرورهم عند أي إنجاز نحققه مهما بلغ حجمه. فهم بحاجة دوماً الى انتصارات تحققها مجتمعاتنا وبلداننا. فأين التعارض إذا؟ أقول ذلك من دون أن أصدر حكماً في هذه القضية، فالحكم مرجعه الجوهري الحقيقة الموجودة عند الناس، والتي يجب أن تقوم تقويماً إيجابياً، إذ أن هذا الإنسان هو الذي يولّد القانون، هو الذي يخلق عناصر الفن ومشروعيتها. هذا الفنّ أكان سينمائياً أم موسيقياً إلخ، يسعى من خلاله الفنان الى استدراج الإنسان وسحبه بحنان وقوة من عالمه الواقعي الفاقد في أحيان كثيرة لمقوّمات الوجدان، الى عالمه الخاص حيث اللحظات الطّيبة اللحظات الوجدانية محرضة للطاقات الداخلية معيداً له إمكاناته الطبيعيّة من سمع وبصر وحس وبصيرة للأشياء قبل حصولها الى ما هناك من إمكانات خلقها الله فيه. إذ ذاك وبعد أن تشتغل كل هذه الطاقات يعيش الإنسان إنسانيته، لأن مهمة الفن الجوهرية هي في إحياء هذه الطاقات المتعددة الموجودة في داخل الإنسان والتي يسهم الواقع في أحيان كثيرة بضمورها. بعد الحادث الذي تعرّضت له أثناء تصوير فيلم "الليل" هل تغيّرت نظرتك الى الأمور ما أثر في مسار العمل في أحداث الفيلم، بمعنى هل هناك من فرق بين العمل ما قبل الحادث وبعده؟ - في الحقيقة إذا كان الحادث هو لحظة تماس حقيقية مع الموت فمن المستحيل بالنسبة إلي الا اذا كان الإنسان بليداً إلى درجة جعلته عند ملامسة الموت فاقداً لكل إحساس بحياته القديمة ولا بحياته التي ربحها من جديد. أما إذا لم يكن بليداً فتجربة التلامس مع الموت ستشكل انقلاباً في داخل الإنسان. أن تمر هذه التجربة من دون انقلاب نوعي داخل الإنسان بصرف النظر عن حديثنا المباشر عن الفيلم. هي تجربة متقلّبة، متشعبة الأغصان، عرقها الأساسي تلامسي للمرة الأولى مع الموت مباشرة، أما انعكاساتها فتجلت بانكسار الأوهام، الأوهام الحلوة، الضروريّة والتي من السيئ العيش من دونها في أحيان كثيرة. أما انعكاس هذا التلامس على الفيلم فسأختصره بهذه الواقعة البسيطة: إن العمليات الفنية للفيلم من تحميض وطباعة كانت تتم في باريس، وكنّا كلما صورنا مجموعة من العلب نرسلها وننتظر نتيجتها. وعلى ما يبدو أن يوم وقوع الحادث كانت السيدة هالة محمّد التي عملت معنا في ملابس الفيلم آتية بمادة مصوّرة وطبعاً نتيجة للحادث لم يكن أحد قادراً على رؤية نتيجتها. وهكذا وبعد انقضاء أكثر من شهر ونصف أو شهرين على الحادث عرض علي صديقي العزيز أسامة، الذي كان اشتغل في فترة مرضي على ترميم اللحظات الداخلية في الفيلم بصورة ذكية وممتازة، عرض عليّ اصطحابي لرؤية المواد المرسلة من باريس والتي لم يتسن لي رؤيتها. وأذكر أنني قلت لأسامة بعد رؤية المواد: "يا الله كم كنت بحاجة الى هذا الحادث كي أصحو وأعرف كيف أصنع هذا الفيلم". عبارة ذاتية أقولها على الهواء على رغم أنها تعكس تشابكاً وتناقضاً بين العبر المستخرجة، بين انكسار الأوهام وقوة تجربة التلامس مع الموت ودورها في إعادة بناء الشخصية الإنسانية وبين هذا التعليق على المادّة التي شاهدتها، إذ أنني عادة كنت أشعر بعدم الرّضا عن أعمالي، وكنت كلما شاهدت مادة مع الأصدقاء أو العاملين يلاحظ الكل عدم رضاي.