قد لا يكون من المنطقي عند الحديث عن الهجرة العراقية الى ايران والآثار التي ترتبت عليها التوقف عند المرحلة التي شهدت بدء الحرب العراقيةالايرانية عام 1980 والاعداد الكبيرة من العراقيين الذين هربوا او هجروا الى هذا البلد. ذلك ان التهجير القسري لهؤلاء حدث على مراحل عدة في السابق اواخر الستينات واوائل السبعينات من القرن الماضي، وقام بها النظام البعثي وادارة صدام حسين بذريعة ان هؤلاء من التابعية الايرانية. يعود التمازج بين الشعبين العراقيوالايراني الى فترات زمنية بعيدة، كان العامل فيها الجوار الجغرافي والتقارب الديني، لذا فقد شهد العراق خلال القرن العشرين، اي مع بداية التشكل القطري للمناطق التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية، حركة هجرة واسعة من ايران باتجاه المدن العراقية تخطت حدود الهجرة العلمية التي كانت تتم باتجاه المراكز العلمية الدينية في النجف الاشرف، التي غلب الطابع الفارسي على نسيجها الاجتماعي والسكاني في كثير من الاحيان. التواجد الايراني الكثيف في العراق، اوجد مجموعة بشرية ضائعة او حائرة بين انتماءين واحد للمكان واخر للعرق والقومية، فولد ذلك في الادبيات السياسية والاجتماعية ما يعرف بجماعة "المعاودين" التي بدأت تأخذ بعداً سياسياً واضحاً خلال النزاع الحدودي بين الدولة العراقية والمملكة الايرانية في اواسط القرن الماضي، وصولاً الى اعلان الحرب اوائل الثمانينات، وكان من نتائجها تهجير اكثر من نصف مليون عراقي او "معاود" الى ايران بما يشابه حركة التطهير العرقي تبناها النظام في بغداد لتطهير الشعب العراقي من العرق الفارسي. ازمة الانتماء هذه التي واجهها هؤلاء في العراق انتقلت معهم الى ايران بعد تهجيرهم اليها، فهم لم يستطيعوا في الغالب الاعم الاندماج في المجتمع الايراني من ناحية، ولا المجتمع الايراني استطاع استيعاب الوافدين الجدد الذين يدعون الانتماء اليه، وبقي ينظر اليهم على انهم دخلاء على جسمه يتحين الفرصة لا للتخلص منهم، بل لقطع الطريق على دعوى الانتماء هذه. عندما قرر نظام صدام حسين البدء بالحرب على ايران في بداية الثمانينات من القرن الماضي، مهد لهذه الخطوة بعملية تهجير واسعة في صفوف العائلات والاشخاص من جذور ايرانية على رغم حيازة الغالبية منهم هويات عراقية. ولم يقف التهجير عند هذا الحد، بل تعداه ليطاول بعض العائلات من اصول عربية اصيلة كان يشك في انحيازها للثورة الايرانية. كانت جموع العراقيين من هؤلاء تشحن في شاحنات مدنية وعسكرية وتلقى في المناطق الحدودية بين البلدين على خطوط التماس العسكرية على الجبهة، وبلغ الامر ان يبعد الأب والأم من دون اولادهما، او الزوج من دون زوجه او الطفل الرضيع من دون والدته. امام هذا الاجراء اللاانساني، كان الجانب الايراني في المقابل، والذي كان لا يزال محكوماً بمثالية ثورية وإسلامية يستوعب هذه الاعداد الكبيرة، موفراً لها السكن على اطراف المدن الرئيسة فأنشأ لهم في اقصى جنوبطهران مجمعات سكنية في منطقة "دولت آباد"، وسمح لهم بإنشاء مدرسة لجميع المراحل التعليمية في وسط العاصمة تدرس البرنامج الايراني باللغة العربية. كان الاحتضان الايراني ل"المعاودين" العراقيين، يقف عند حدود هذه الاشكال، شرط الا يتعدى الى ما هو اكثر، اما على الصعيد الاداري والقانوني، فقد تولت وزارة الداخلية الايرانية عملية تنظيم وجود هؤلاء على الاراضي الايرانية في المدن التي تواجدوا فيها، خصوصاً في طهران وقم وشيراز، وراحت تصدر لهم ما عرف ب"الكارت الاخضر" الذي لا يرقى الى مصاف الجنسية ولكنه يخول صاحبه الحصول على جواز سفر قد يساعده على الهجرة، ولا يدنو من بطاقة الاقامة التي قد تمنحه في بعض الاحيان حق العمل، لأنه معرض في اي لحظة للتوقيف ومصادرة اوراقه. فمن بين نحو اربعين شاباً عراقياً تلاقوا في الغربة وجمعتهم سنوات الدراسة في المدرسة العراقية التي كانت تحمل اسم "مجمع الشهيد محمد باقر الصدر"، لم يبق منهم في ايران بعد عام 1986 سوى اثنين فقط، لانهما استطاعا تغيير وضعهما القانوني من حملة ال"كارت الاخضر" الى مجنسين بفضل اثباتهم بالمستندات لاصولهم الايرانية، فيما توزع الآخرون على مختلف اصقاع الدنيا. بعد انتهاء الحرب العراقية - الايرانية عام 1988، يمكن القول ان "شهر العسل" بين هؤلاء الوافدين والجمهور الايراني انتهى، واستعادت المدرسة التي كانت مخصصة للعراقيين على جدول وزارة التربية والتعليم هويتها الايرانية بالتدريس، واصبح على اي عراقي يريد استكمال تعليمه ان يلتحق بمدرسة ايرانية، فضلاً عن خسارة الآخرين الكثير من الامتيازات التي منحت لهم في البداية على الصعيد الاجتماعي. كان من المفترض بهذه الخطوة ان تساهم في تحقيق الاندماج بين الاجيال العراقية الجديدة التي ولدت في ايران - المهجر والمجتمع الايراني، الا انها ولاسباب متعددة لم تؤد الوظيفة المطلوبة منها في شكل دقيق، وقد يعود ذلك الى المجتمع الايراني الذي قلما يستطيع الاندماج مع الآخر، وقد تصل هذه الازمة الى حدود الفصل بين ابناء المناطق الايرانية، وكذلك بين ابناء المدينة والريف. وبعد مرور نحو 25 عاماً على موجة التهجير التي تعرض لها "المعاودون"، ولدت اجيال عراقية جديدة بعيدة من الوطن الذي جاء منه الاهل، واضطرت في جانب من حياتها الى التعامل مع المجتمع الايراني، الا انها اجيال بقيت في ما يشبه "الغيتو". تعلم الشبان العراقيون اللغة الايرانية واجادوها باللهجات المحلية تبعاً للمناطق التي سكنوا فيها، الا ان اللغة هذه لم تساهم في كسر الحواجز الاخرى الموجودة بين الطرفين. فالايراني ينظر إليه على انه عراقي اجاد لغته وهو ما زال عربياً. فيما الشاب العراقي ازداد لديه انتماؤه العراقي والعربي كرد فعل على تمترس الايراني في ايرانيته. وهنا يقول "علاوي" 17 عاماً انه لم يستطع حتى الآن اتخاذ صديق ايراني له على رغم زمالته مع الكثيرين منهم في المدرسة، والسبب انه "خلال شقاوات المدرسة عندما كنا نتوافق على اذية احد الرفاق، كانوا يرفضون مشاركتي لأنني عربي، فيما كنا نتفق جميعاً على رفضنا لأجواء قم التي نعيش فيها". ويتابع "كم اتمنى ان تقترب الساعة التي نعود فيها الى العراق". ولدى سؤاله عن مدى معرفته بالعراق يقول: "انا لا اعرافه لكنني اعرف ان لي اهلاً هناك لن يعاملوني كشخص غريب او دخيل". وهنا يتدخل والده ابو محمد ليقول: "ان الازمة تكمن في ان المجتمع الايراني يعتبر مغلقاً على غير المنتمين اليه، لذلك فإن الشبان العراقيين لم يستطيعوا الاندماج، وتولد لديهم حنين الى بلد لا يعرفونه". ويرد ابو محمد سبب هذه "النوستالجيا" لدى اولاده الى الدور الذي لعبته والدتهم في اذكاء هذا الحنين، في حين ان رفاقاً وأتراباً لهم لا يكنون للعراق اي شوق لرؤيته. في المقابل، فإن شواهد الانفصام في العائلة الواحدة ليست غريبة، وهذا يمثل شريحة غير قليلة ايضاً داخل العراقيين هنا، فعماد الذي وصل الى ايران عام 1981ولم يبلغ السابعة من عمره، يجد صعوبة في استيعاب فكرة العودة التي بدأت تسيطر على اجواء عائلته الساعية للمغادرة باسرع ما يمكن. ويقول عماد الذي يبلغ الان 32 عاماً، انه تعرض لحملة شرسة من اخوته ووالديه بسبب قرار زواجه من فتاة ايرانية، وواجه تهديداً شديداً من شقيقته التي تصدت له بكل قوة داعية اياه الى مغادرة ايران على الفور لمنع هذا الزواج غير المتكافئ وغير المنطقي، مضيفة "لم نخسره اثناء مصاعب التهجير القاسية، والآن لا نريد ان نخسره وقد اصبح شاباً". عماد ببساطته يحاول ان يثبت ان الاندماج بين العراقيينوالايرانيين ممكن وهو يسعى الى اقناع والده بالاحتفاظ بالمنزل الذي اشتراه في طهران ليقيم هو فيه. لكنه في لحظات الغضب يتذمر من المصاعب التي تواجهه كونه عراقياً، ولا يملك وثيقة تخوله السفر. ويرى في بعض الاحيان ان شقيقته على حق فهي واجهت ازمة مع الجامعة بعد اجتيازها جميع المراحل الصعبة في امتحانات الدخول الا ان الادارة حرمتها من الدراسة بحجة ان هذه المقاعد للايرانيين وليس للعراقيين.