بعد عقود من الممارسات العنصرية، لن يكون من المستغرب ان يمارس حكام بغداد في بداية الثمانينات العنصرية وبنفس اساليب الغزو والاغتصاب ضد آلاف من المواطنين العراقيين من الأكراد الفيلية أو لمجرد كون أجدادهم من أصول إيرانية. والكثيرون من هؤلاء هم من التجار الكبار ومن صاغة الذهب وملاك العقارات، بالإضافة إلى اصحاب الكفاءات العلمية والشخصيات الأكاديمية ممن لا يوجد من يمس نزاهتهم الوطنية أو سمعتهم الاخلاقية، بل الأمر هو على العكس تماماً. لكن وعلى رغم ذلك، تم اغتصاب حقوقهم وثرواتهم وممتلكاتهم، وخلال ذلك تم اعتقال واخفاء المئات من ابنائهم الشبان الذين لا يُعرف مصيرهم لحد الآن، وهجرّت عوائلهم في مشاهد مأسوية قل نظيرها، إذ مات الكثيرون منهم كمداً قبل وصولهم إلى إيران. لكن بالنسبة الى السلطة كانت المسألة مصدر فخر واعتزاز حيث تم تقاسم الغنائم المغتصبة باعتبارها مكافآت على أعمال بطولية! وتم توزيع الأوسمة والنياشين على منفذي هذه المأساة، لأن البداوة والهمجية ما تزالان قابعتين، بل راسختين في أعماق البعض، وهما ما يحرك عقولهم وغرائزهم. هذا هو التخلف إذن، لكن السؤال هو: هل انتهت مأساة ضحايا العنصرية هؤلاء عند وصولهم إلى إيران؟ والجواب: لا طبعاً. بل ان حياتهم صارت أكثر مرارة، فما حدث لهم في إيران كان وما يزال خارج أي تصور أو توقع بالنسبة لهم. لكن من الناحية الموضوعية، فإن الأمر يمكن توقعه، لأن نسق التخلف في بنية النظام السياسي السائد في العراق والذي انتج النزعة والسلوك العنصريين رسمياً، هو ذاته السائد في إيران بغض النظر عن اختلاف الأقنعة السياسية التي يستعملها النظام هنا أو هناك. لقد أصبحت مأساة العراقيين في إيران معروفة، لكنها مهملة من قبل الجميع لعدم وجود طرف دولي مؤثر يلتزم الدفاع عنهم! ومنذ البداية، أي منذ عشرين سنة، يعيش أكثر من نصف مليون عراقي في إيران محرومين من أبسط حقوقهم المدنية. فهم ممنوعون رسمياً من العمل ومن فتح مدارس عربية لأولادهم، ومن الزواج من إيرانيات، وقد احتُجزت أكثريتهم في معسكرات تنعدم فيها شروط الحياة الطبيعية، ومن يعيش خارج المعسكرات محروم من الحصول على وثائق إقامة رسمية، وعندما تُعطى لبعضهم "البطاقة الخضراء" فهي لا قيمة لها حيث كُتب على وجهيها عبارة تقول "لا اعتبار قانونياً لهذه البطاقة"، وهي لا تحمل تاريخ تجديد أو تاريخ انتهاء لكي لا يطالب حاملها السلطات الإيرانية بأية حقوق مدنية بعد مرور خمس سنوات على وجوده في إيران. وبهذه الطريقة تقوم حكومة الجمهورية الإسلامية بحرمان اللاجئين المسلمين من حقوقهم حيث تخالف بذلك تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وتخالف أيضاً القانون الإيراني ذاته الذي ينص على حق التجنس لمن يقيم في البلد لمدة خمس سنوات. ولكن يبدو ان القوانين الإنسانية من هذا النوع هي في البلدان المتخلفة مجرد حبر على ورق. وفي الشهور الأخيرة من القرن العشرين توّجت السلطات الإيرانية سلوكها العنصري هذا بمأساة يطول شرحها هنا. إذ سلمت المئات من اللاجئين العراقيين إلى سلطات بغداد! وذلك بناء على قرار مجلس الشورى الإيراني السماح للحكومة بطرد نصف مليون لاجئ عراقي. ولم تنفع النداءات الكثيرة التي وجهها علماء ووجهاء المسلمين الشيعة من بلدان عدة إلى المراجع الدينية والرسمية العليا في إيران، الأمر الذي يعني أن الثقافة الحقوقية في جمهورية إيران الإسلامية وصلت إلى الحضيض بعدما صارت سلطاتها التشريعية والتنفيذية تمارس العنصرية رسمياً وعلى رؤوس الاشهاد. والأغرب أن لا المعارضة الاصلاحية ولا آيات الله ولا المثقفون ولا أية جهة في إيران ساندت ضحايا العنصرية من العراقيين والأفغان الذين يعانون من الحيف نفسه، على رغم بشاعة الاجراءات الرسمية ضدهم! والمقال اليتيم في الصحافة الإيرانية هو الذي نشرته "طهران تايمز" في 24/10/1999 وهو على كل حال له دلالة مهمة هنا، ومما جاء فيه: "ولنفكر الآن في وضع العراق جارنا على الحدود الغربية، اننا نجد الجهود منصبة على العمل لاخراج اللاجئين العراقيين من إيران، وقد اخرج منهم لحد الآن ما يقارب 300000 لاجئ. إلى أين خرج هؤلاء؟ هل عادوا إلى العراق؟"، كما تتساءل الصحيفة، لتضيف: "لقد نجحت السياسة الإيرانية في هذا المجال والذي يصب في مصير مشؤوم لهؤلاء اللاجئين! هل هذا يدل على المقدرة والنجاح؟! أين هي الحكمة أو الدين في جعل المسلمين يصلون إلى هذه الدرجة من الاحباط نتيجة لاستنتاجات اقتصادية خاطئة؟ ان هؤلاء اللاجئين كانوا بجانبنا وقد قدموا ضحايا في الحرب التي فرضها صدام على إيران، ومن مصدر في رئاسة الجمهورية، فإن عدد الضحايا منهم بالنسبة لعدد نفوسهم في إيران يفوق نسبة عدد ضحايا الإيرانيين إلى عدد نفوسهم. وعلى أية حال انظر إلى التصريح الأخير للسيد حسن حبيبي معاون رئيس الجمهورية، حيث يقول: لا مجال لإقامة اللاجئين العراقيين في إيران بعد اليوم"! وتضيف الجريدة مؤكدة: "لقد وضعت السياسة العامة لتتبنى هذا النهج، علماً ان بعض هذه الاجراءات عنصرية أو منافية لأصول العقيدة أو أنها مجرد تصورات واهية". ومن الاجراءات المضحكة المبكية التي يشير إليها مقال "طهران تايمز": "وعلى سبيل المثال، خذ الجدول المعلن من قبل وزارة العمل الإيرانية لسنة 1377ش، إذ يحدد القانون رواتب العاملين الأجانب في إيران واضعاً العراق في حقل يقابله حقل لكل من أوروبا الغربية واليابان وأميركا، حيث مقدار الراتب الشهري لهؤلاء الأجانب أكبر ب 700 في المئة من راتب العراقي العامل بالاختصاص نفسه. وهناك أيضاً تراجيديا مؤلمة أخرى هي من نصيب الأطفال العراقيين الذين يولدون في إيران، فهم لا يُمنحون أية مستمسكات قانونية تضمن حق تسجيلهم في المدارس مستقبلاً! وعلى مستوى التحصيل الجامعي، فالأمر أكثر تعاسة، وإذا وجد عراقي يدرس في إحدى الجامعات الإيرانية، فلا بد أنه سلك طريقاً غير مألوف لإكمال دراسته... ليست هناك قنوات قانونية طبيعية للذين يولدون في إيران من العراقيين في أي مجال من مجالات الحياة، فأمامهم نفق طويل مظلم لا نهاية له". إن الوقائع تُسقط دائماً الأقنعة الايديولوجية والادعاءات المثالية للعديد من الحكومات العنصرية في العالم الثالث، حيث تعود المسألة في أساسها الاخلاقي الى نوعية ومستوى الثقافة الحقوقية التي يعتمدها هذا النظام أو ذاك. وهذا ما يفسر بدوره لماذا تستطيع الحصول على الجنسية وكامل حقوق المواطنية بعد خمس سنوات من اقامتك في دول الغرب الديموقراطية، بينما تظل في الدول المتخلفة غريباً محروماً من الحقوق حتى لو اقمت أنت وأحفادك لمئة سنة، وحتى لو خدمت مصالح تلك البلاد أكثر من أهلها. والسبب هو ان الجهة المتخلفة لا تدرك أين تكمن مصالحها، وهذا هو جوهر التخلف!