علينا بداية أن نقف أمام حقيقة تاريخية لها أهميتها الكبيرة، وهي حقيقة تحاول ايران تجاوزها أو لنقل يحاول بعض المسؤولين إدراجها في ملفات الماضي، تلك هي ان الهجرة العراقية الى ايران تمت بمحفزات مباشرة من طهران عندما وصلت أزمتها مع النظام العراقي درجة الانفجار العسكري. وكان الاعلام الايراني يدعو المجاهدين من أبناء العراق الى الالتحاق بالجمهورية الاسلامية، وحين نشبت الحرب العراقية - الايرانية، ما بين 1980 - 1988م صعدت الحكومة الايرانية من دعوتها لاستقدام العراقيين وأفراد القوات المسلحة العراقية، وكانت الاستجابة سريعة، إذ ان الكثير من المهاجرين ترك عائلته وهاجر بمفرده. وقدم المهاجرون العراقيون خدمات كبيرة لايران في مجالات مختلفة الاعلامية والتقنية والصحية الى جانب المشاركة الفاعلة في جبهات القتال، واستشهد منهم المئات، لا تزال قبورهم شاهدة على الأمر في قم وطهران ومشهد وأصفهان وغيرها من المدن. وعندما انتهت الحرب، بدأت الأجهزة الرسمية في وزارة الداخلية تمارس ضغوطها على المهاجرين، كان أبرزها مسألة السفر والزواج والعمل. وبدا واضحاً ان الأجهزة الايرانية لم تعد بحاجة الى العراقيين، وبدأت تصدر تصريحات من مسؤولين في وزارة العمل تعزو مشكلة البلاد الاقتصادية الى وجود الأجانب، وهو منطق غير مقبول من الناحية التخصصية، إذ أن فرص العمل للعراقيين محدودة جداً في الدوائر الرسمية، أما فرص الأعمال الحرة فهي متاحة لكل فرد، ولا يمكن اعتبار ان بائع الفاكهة العراقي يزاحم الايراني على هذه الفرصة، بل ان هذا المنطق ينهار اذا ما عرفنا ان عدد الايرانيين العاملين في الخليج وفي دول اخرى يصل الى أكثر من خمسة ملايين مهاجر، وهو رقم يفوق عدد العراقيين في ايران بنحو عشرين ضعفاً. تجاوزت ايران الحقائق العلمية في هذا المجال، كما انها حاولت ان تسدل الستار على الماضي، وأهم ما فيه انها هي التي شجعت العراقيين على الهجرة اليها. هذا الى جانب مجموعات كبيرة تم تهجيرهم بالإكراه من قبل النظام العراقي بدعوى أنهم من أصول ايرانية... لكن ايران لم تمنح الكثير منهم الجنسية، ولا يزال المئات يعيشون في المخيمات. كانت وزارة الداخلية الايرانية تمنح المهاجرين العراقيين "البطاقة الخضراء"، وبدأ ذلك منذ عام 1980، ولكنها في 1984/1985، اسقطت البطاقة ومنحت بدلاً منها بطاقة جديدة لم تكتب فيها تاريخ الاصدار، مع عبارة ان هذه البطاقة لا يمكن استخدامها في معاملات التملك الرسمية وغيرها. وكان اسقاط التاريخ مقصوداً حتى لا يطالب حامل البطاقة باستحقاقات قانونية في المستقبل، تترتب على مدة الاقامة الطويلة في ايران. ومن الطبيعي أن يحتاج أي مقيم في أي بلد الى وضع قانوني مستقر نسبياً، وهذا ما لم يجده العراقيون في ايران، لا سيما خلال السنوات العشر الأخيرة. فمسألة البطاقة الفاقدة لقيمة رسمية معتبرة، كانت مجرد ورقة تمنح التعريف بشخصية حاملها ما خلق للعراقيين الكثير من المشكلات الحياتية، مثل الحق في تملك العقارات أو فتح محلات تجارية أو العمل وفق اختصاصاتهم مثل الطب، إذ لم يكن بمقدور الأطباء فتح عيادات، أو الصيادلة الذين لا يسمح لهم بتأسيس مراكز خاصة بهم. وفيما لو وجد المتخصص مجال عمل فإن المرتب الذي يمنح له يكون أقل بكثير من الموظف الايراني، بل ومن الموظف غير العراقي الذي يحمل الشهادة ويمارس الوظيفة نفسها. كما برزت مشكلة اجتماعية كبيرة، وهي قضية الزواج التي تعد في ايران في غاية الغرابة، فقد منع المسؤولون في وزارة الداخلية حق العراقي الزواج بايرانية، وهو أمر مخالف تماماً لتعاليم الاسلام وأحكامه، ولم نجد هذه المشكلة في دول أخرى. وفي الحالات التي تم فيها زواج العراقيين من ايرانيات، كان عقد الزواج الرسمي لا يصدر عن الجهات المختصة، ما يضطر الزوجان للحصول على عقد زواج بسيط من بعض المؤسسات العراقية. المنع من العمل إن منع العراقيين من العمل يعني عملية تهجير من نوع جديد، فكيف يمكن لصاحب العائلة أن يوفر مستلزمات المعيشة والسكن لأفراد أسرته، ما دام لا يملك عملاً يرتزق منه، اضافة الى أن ايران لا تقدم مساعدات مالية للمهاجرين على الاطلاق، باستثناء معونات بسيطة في فترات متباعدة ترسلها الى المخيمات. ويعتمد سكان المخيمات على تبرعات الهيئات العراقية أساساً. وأخيراً وصلتنا أنباء ان بعض المخيمات التي يسكنها العراقيون فرضت عليها ادارة المخيم دفع قوائم فواتير الماء والكهرباء، وهو أمر صعب بالنسبة الى سكان المخيمات من العراقيين الذين لا يمارسون أي عمل. وهذا ما دفع الكثير من العائلات العودة الى العراق، إذ لم يعد أمامها من خيار آخر على رغم المخاطر الأمنية. قبل سنتين قامت الأجهزة الحكومية الايرانية بحملة ضد العراقيين، وكانت مفارز الشرطة تعترض كل عراقي في مدينتي قم وأصفهان، ومن لم يحمل "البطاقة الخضراء" يساق الى مخيمات في شمال ايران، أو يرحل الى الحدود العراقية. وحدثت نتيجة ذلك مآسي كثيرة واضطر أرباب الأسر ممن لم يحصلوا على البطاقة البقاء في بيوتهم من دون عمل، مفضلين ضنك العيش على الترحيل. وكانت الاجراءات تقضي بأن العراقيين لا يحق لهم التنقل من مدينة الى أخرى، إلا بعد الحصول على موافقة خاصة من وزارة الداخلية. وحدثت نتيجة ذلك هجرة مكثفة الى الكثير من الدول لا سيما استراليا ونيوزيلندا وذلك من طريق البحر لقلة التكاليف مقارنة باللجوء الى الدول الأوروبية. ولا يزال عدد كبير من العائلات العراقية تعيش في ايران من دون معيل، لأن الأب أو المعيل رحل بمفرده على أمل أن تلتحق به أسرته، غير أن السلطات الاسترالية أصدرت قوانينها الجديدة برفض حالات جمع الشمل، لتزداد محنة هذا الشعب المظلوم. وقبل أشهر عادت المضايقات الايرانية للعراقيين، ويجب ألا ننسى ان الأفغانيين يعيشون ظرفاً مشابهاً أو أشد قساوة، وقضت الاجراءات الجديدة بمنع أي عراقي من العمل في دوائر الدولة أو في الأعمال الحرة حتى البسيطة منها، مثل الباعة المتجولين. وفرضت غرامات مالية ثقيلة على كل صاحب معمل أو متجر ايراني يعمل عنده عامل عراقي أو أفغاني، وهذا يعني التضييق على المهاجرين معاشياً من أجل دفعهم الى مغادرة البلد. ونجم عن هذا الاجراء هجرة أعداد كبيرة من العراقيين الى ماليزيا ومنها الى استراليا. ولا تزال الهجرة مستمرة في شكل اسبوعي، ويستطيع الناظر ان يرصد المعاناة الانسانية الأليمة كل اسبوع في مطار طهران الدولي، حيث يودع الأب أفراد أسرته ولا يدري ما هو المصير الذي ينتظره وينتظرهم. والمؤسف ان الارقام التي تقدمها وزارة العمل الايرانية ليست دقيقة، إذ بالغت كثيراً بأرقام المهاجرين، وبالغت في تصوير الضرر الكبير الذي لحق بالاقتصاد الايراني من جراء وجودهم، كما ضخمت صورة البطالة وأرجعت السبب إليهم. وأسهم ذلك في نشر ثقافة "القومية الايرانية" في المجتمع الاسلامي، وأثارت الشيعي الايراني على الشيعي العراقي، وربما كان ذلك مقصوداً، إلا أنه اسلوب غير مسؤول من الناحية الدينية والاجتماعية، لما له من آثار سلبية على التربية والحياة العامة. ويذكر ان الحكومة الايرانية بتصرفاتها خالفت وتخالف الدستور الذي ينص على أن كل اجراء أو قانون يخالف الأحكام الاسلامية يعتبر غير شرعي وغير دستوري. وبمعارضة عراقية اننا ننطلق من الايمان الكامل بوجوب تطبيق تعاليم الاسلام ومن قاعدة ان نُلزم الحكومة الايرانية بما ألزمت هي نفسها به من وجوب تطبيق الاسلام، نعتقد ان الاجراءات الحالية هي مما يتعارض مع صريح القرآن الكريم والسنّة الشريفة، ولا سيما الشعب العراقي ومجاهديه الذين دافعوا عن الثورة ونصروها في فتراتها الحرجة. ونود التأكيد على ان تحركنا صدر في أعقاب دراسة متأنية للوضع القانوني من جهة ووضع العراقيين المقيمين في ايران من جهة أخرى، ومع اننا كنا نواجه ضغطاً جماهيرياً عراقياً للتحرك، إلا أن البعد الاسلامي حال دون تحركنا القانوني. وأود التأكيد أن الشكوى الدستورية التي نحن بصدد تقديمها الى الجهات الدولية لا نرى انها تتعارض مع مبادئنا الاسلامية، بل هي محاولة لايقاف المخالفات الدستورية التي يقوم بها مسؤولون في الحكومة الايرانية، بخصوص مسألة انسانية واسلامية حساسة تتعلق بمصير المهاجرين من أبناء شعبنا المظلوم. وتأتي الشكوى الدستورية لأننا لم نر تفهماً وتجاوباً من الحكومة الايرانية، وكنا نتمنى أن يتم علاج هذه المشكلة بطريقة أخرى كالتفاوض والتشاور مع المسؤولين الايرانيين. * سياسي عراقي، لندن.