غير بعيد من ميدان الإمام الخميني جنوب العاصمة الإيرانيةطهران يقع شارع مروي متفرعاً من شارع ناصر خسرو، وإذا كان المكان ما زال شاهداً على حوادث وتحولات سياسية لم تمحَ من ذاكرة الإيرانيين فإنه بالنسبة للعراقيين يحمل معاني أخرى، فالمكان يعني ويشكل مركز اللجوء. هناك، حيث تتعالى أحاديث الناس باللهجة العراقية، يتواجد كثيرون من اللاجئين العراقيين الذين قدموا الى إيران. كثير منهم قدم منذ عقود وبعضهم منذ سنوات وبعضهم الآخر منذ اشهر. وإن كان شارع مروي يمثل ما يمكن أن يطلق عليه جزافاً «السوق التجاري» للاجئين العراقيين فإن «دولت آباد» هي الضاحية التي يسكنون فيها، وحمل الكثير من أهلها لقب «المعاودين»، وهو اسم أطلق على آلاف أبعدهم صدام حسين من العراق بحجة أن أصولهم إيرانية. وتلتصق الضاحية الواقعة في جنوبالمدينة بأحياء أخرى فقيرة مثل «شاه عبدالعظيم» و «شوش». في «دولت آباد» ستجد أن العراقيين الذين تجمعوا منذ سنوات طويلة قد نقلوا إليها أنماط الحياة اليومية التي يمكن مشاهدتها في العراق. وهناك ستشعر إنك في بغداد: لافتات المحلات، أسماء الأطعمة على واجهات المتاجر، أسماء الحسينيات، لباس الناس وأحاديثهم. شيئاً فشيئاً ستغيب الكلمات الفارسية، وسيغيب التشادور الإيراني لتظهر النساء بالعباءة العراقية، وستجد الرجال يتجولون في أوقات المساء وقد ارتدوا «الدشداشة». لا يبدو الوصول سهلاً إلى «دولت آباد» أو «حي العرب» كما يسميه الإيرانيون. وبعد «سفر» ليس بالسهل استغرق ساعات من شمال المدينة نصل إلى مقصدنا، فنشعر وكأننا غادرنا طهران إلى مدينة أخرى. يأتي صوت السيد هاشم الموسوي متسائلاً بلهجة عراقية: «تفظلوا شنو تريدون»؟ ويشرح الرجل الذي يعرف المكان جيداً، كيف نشأ هذا الحي بعد سنوات قليلة من قيام الثورة الإيرانية. يقول الموسوي: «هنا يعيش الكثير من العراقيين، هم في غالبيتهم من الذين جاؤوا الى إيران لأسباب سياسية»، وعلى رغم سنوات العيش الطويلة هنا ما زالوا يحافظون على نسقهم الاجتماعي في الحياة بالشكل الذي كانوا عليه في العراق. ويتجلى ذلك في المناسبات الاجتماعية، والتعامل اليومي في ما بينهم. ويضيف: «صحيح ان البعض امتزج بالمجتمع الإيراني وحصل عدد منهم على الجنسية الإيرانية وانتقلوا للعيش في أحياء أخرى من العاصمة، إلا أن هذا الحي يضم الكثير من العراقيين الذين ما زالوا يأملون بالعودة الى وطنهم، لكن أوضاع العراق الأمنية لا تشجعهم على ذلك». «هذه حسينية أهل الكاظمية» ويتابع الموسوي، «إذا سرنا الى الأمام قليلاً سنجد حسينية أهل النجف، ومستوصف التوحيد، ومؤسسات أخرى أنشأها العراقيون للوفاء باحتياجات أبناء وطنهم». ويتذكر الموسوي أيام طفولته في العراق: «هناك في مدارسها تعلمت حروفي الأولى، لقد كان العراق جميلاً... أبعدت عائلتي من العراق بحجة إننا إيرانيون لكننا عراقيون حتى الصميم». وإن كانت مشاعر الموسوي تجاه العراق شديدة الوضوح فهي ليست كذلك بالنسبة لزهراء (20 سنة) التي تدرس الهندسة في إحدى الجامعات الإيرانية، فمشاعرها المختلطة مزيج من حب وخوف، والعراق الذي تحبه «موجود في أحاديث والديها وذكرياتهم فقط»، أما ما يحدث اليوم فيجعل من المستحيل عليها أن تفكر بالذهاب إلى هناك. «مثل آلاف العراقيين لم أشاهد وطني، فقد ولدت هنا وكثيراً ما أشعر إنني ابنة إيران». الوضع «تعبان» في مروي في شارع «مروي» المليء بالمتاجر، يمكنك ان تسمع العراقيين وهم يتحدثون في البيع والشراء وفي آخر أخبار العراق. وبالنسبة لمن استطاع الحصول على الجنسية الإيرانية الحال «مستورة والحمدلله»، لكن بالنسبة لعراقيين آخرين فالحياة تضيق بهم يوماً بعد آخر، وصاروا غير قادرين على إيجاد عمل. إجراءات الإقامة أصبحت أصعب وتسير باتجاه تنفيذ قرار اتخذته الحكومة الإيرانية بإعادة اللاجئين الى بلدانهم سواء كانوا من الأفغان أو العراقيين، فاللاجئون وبحسب الحكومة الإيرانية «يمثلون عبئاً تتحمله إيران وحدها من دون أن يمد المجتمع الدولي يد المساعدة بغذاء أو دواء أو تعليم». وفي مروي الكثير من العراقيين يحدثونك عن الآم اللجوء ومصاعبه، فيبادرونك الى القول: «عيني الوضع تعبان، وحكومة إيران ما تريد تجدد الإقامات ومخبل اللي يعاود العراق الحين». جعفر موسى من مواليد الكاظمية في بغداد طرد مع عائلته إلى إيران منذ 48 عاماً، وما يعرفه أن أباه وجده ولداً في العراق. وعلى رغم أنه اليوم يحمل الجنسية الإيرانية إلا أنه يشعر أن بغداد «مدينته التي أبعد عنها عنوة». ويرد على سؤال عما إذا كان يفكر بالعودة إلى العراق ب «لا» قاطعة. يعقبها بسؤال: «هل أوضاع العراق الآن تشجع أحداً على العودة»؟ ولا تسير الأمور بسهولة بالنسبة لحسن الشمري الذي هرب من السجن بعد حكم عليه بالإعدام وقطعت رجله نتيجة انفجار لغم على الحدود العراقية - الإيرانية، وبعد أن كان واحداً من أشهر مصنعي الحلويات في العراق يجلس الشمري اليوم في أحد زوايا مروي مريضاً بلا حول ولا قوة والعربة التي كان يبيع عليها صادرتها بلدية طهران، أما أطفاله فلا يملك كلفة إرسالهم الى المدارس. وليس الوضع بأفضل لأبو محمد البغدادي، فقد طرد من العراق منذ 27 عاماً، ومنذ ذلك اليوم و «نحن نعاني مرارة اللجوء، فالحياة هنا صعبة للغاية»، ويوضح البغدادي أن الأممالمتحدة قامت بتسجيل أسماء اللاجئين العراقيين مرات عدة من دون أن تقدم لهم أية مساعدة تذكر. وفي السابق كانت إدارة الأجانب في إيران تعطي بطاقة لجوء خضراء مفتوحة المدة، لكنها قامت بسحبها واستبدلتها بأخرى بيضاء يتم تمديدها سنوياً ضمن خطة حكومية لإعادة اللاجئين الى بلدانهم. ويتحدى الكردي فريدون نوري من مواليد بغداد أحداً أن ينكر عروبته، ويقول: «ولدت في الباب الشرقي قرب مقام الشيخ عبد القادر الجيلاني، عمري الآن 70 سنة وقد لجأت مع عائلتي الى إيران منذ 40 عاماً وإذا عاد الأمن إلى العراق سأعود. صحيح إنني كردي، لكنني من الناحية الثقافية عربي، أحفظ الشعر العربي وأحب المتنبي، فهل يستطيع أحد أن ينكر عروبتي»؟ 54 ألف لاجئ ويؤكد آخر إحصاء لمكتب شؤون اللاجئين التابع للأمم المتحدة في طهران أن عدد اللاجئين العراقيين في الجمهورية الإسلامية يبلغ 54 ألفاً يعيش 49 ألفاً منهم في المدن مثل طهران وأصفهان ويزد وقم ومشهد و5 آلاف يعيشون في 12 مخيماً للاجئين تدار من قبل السلطات الإيرانية. ولكن الأرقام غير الرسمية تتحدث عن عدد يفوق ذلك بكثير، خصوصاً ان بعض أعضاء مجلس الشورى الإيراني من منطقة مشهد قد أثاروا في وقت سابق قضية 54 ألف طفل من دون وثائق رسمية بسبب ان أمهاتهم إيرانيات تزوجن من عراقيين، وأن الكثير من هؤلاء الآباء عادوا الى العراق بينما بقيت نساؤهم وأطفالهم في إيران. وكان قد اغلق في العام 2004 مخيم اشرفي في منطقة خوزستان وكان يعتبر أكبر مخيم للاجئين العراقيين وكان يضم 12 ألف لاجئ، وحتى نيسان (أبريل) من العام 2003 كانت إيران تستضيف أكثر من 200 ألف لاجئ وكان هذا الرقم هو الأكبر بالنسبة للاجئين العراقيين في العالم في ذلك الوقت عاد غالبيتهم إلى العراق بعد سقوط نظام صدام. للأطفال معاناة أخرى وتقول تقارير لمنظمة الدفاع عن حقوق الأطفال الإيرانية أن 90 في المئة من أطفال الشوارع في إيران هم من المهاجرين، وتشير تقارير منظمات حقوقية أخرى الى عدم وجود إحصاء دقيق بعدد هؤلاء الأطفال إذ أن غالبيتهم لا تحمل أية وثائق ثبوتية، بسبب دخولهم الى إيران مع ذويهم بطرق غير شرعية، أو زواج أمهاتهم من عراقيين أو أفغان. وتقيم «دار ناصر خسرو» للأطفال دورات لتعليم القراءة والكتابة للأطفال الذين لا يملكون وثائق ثبوتية ويعملون في الشوارع، وهم في غالبيتهم من الأطفال المهاجرين الأفغان والعراقيين. ووفقاً لمنظمة «يونيسيف» هناك ما يصل الى 57 ألف لاجئ عراقي في إيران والكثير منهم يفضل الذهاب الى سورية أو الكويت. وتقدم اليونيسيف مشروعاً يقتصر على الأطفال الأفغان، وتعلل ذلك بأن أوضاع الأطفال العراقيين في إيران أفضل بكثير مقارنةً بأوضاع الأطفال الأفغان. ويضع كارلوس زاكاغنيني، مندوب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في إيران، البطالة في مقدم المشكلات التي تواجه اللاجئين، ويرى أن المجتمع الدولي يجب أن يقدم المساعدة لطهران لتتمكن من الوفاء باحتياجاتهم، موضحاً أن التوجه الحكومي برفع الدعم سيكون له تبعاته الخطيرة على حياة آلاف منهم. ودخلت إجراءات تسجيل اللاجئين في إيران مرحلتها الرابعة ضمن خطة تهدف لإعادتهم إلى بلدانهم.