قبل التسعينات من القرن الماضي كان زوار ا لحدائق والساحات العامة في مدن إسبانيا يمارسون العادات والتقاليد نفسها. أكثريتهم الساحقة كانت من الإسبان الذين يسكنون المدن ولا يملكون بيوتاً في الريف. ومن وقت إلى آخر كانوا يجدون بينهم عائلة مهاجرة تقف بخجل لتتفرج على أبنائهم كيف يمارسون لعبتهم المفضلة، كرة القدم. فعدد المهاجرين آنذاك كان لا يزال ضئيلاً، وبالتالي كانت تنقصهم الجرأة للاختلاط بالسكان الأصليين وتقاسم أماكن الترفيه معهم. وما أكثر تلك المرات التي كان أولاد الإسبان يدعون أولاد المهاجرين للعب معهم فكانوا يواجهون معارضة أهلهم الذين كان عامل الخوف من المهاجر والغريب ما زال يسيطر على نفوسهم، إما بسبب العنصرية أو الجهل. لكن صغارهم كانوا يكتشفون بين هؤلاء "رفاقاً طيبين" وفي بعض الأحيان خبراء في لعبة كرة القدم ما كان يدفعهم للبحث عنهم كلما عادوا إلى تلك الأماكن. اليوم، تغيرت الأمور بشكل كبير. فسيطر المهاجرون على الحدائق والساحات العامة في عدد من مناطق إسبانيا وأصبحوا يمارسون كل أنواع النشاطات فيها. يتجمعون أيام الآحاد للقاء بعضهم بعضاً وممارسة رياضتهم المفضلة وتذوق أطباقهم الوطنية وتبادل الأشياء التي تجمعهم وتشدهم إلى الوطن الأم أو البحث عن عمل، وأصبح منظر مجموعات المهاجرين أمراً عادياً على رغم عدم تشكيلهم تجمعات خاصة بهم. فالمهاجرون الشباب في إسبانيا، مثل المخاطر التي مروا بها، أنواع عدة. أكثريتهم من المغاربة الذين جاؤوا من طريق البر أو على متن "قوارب الموت". من تمكن من تجاوز هذه المغامرة من دون أن تكتشفه الشرطة بقيت أمامه مغامرة أخرى، لا تقل صعوبة عن الأولى، وتكمن في الحصول على بطاقة إقامة. تعي أوروبا حاجتها لليد العاملة الأجنبية الشابة من أجل الاهتمام ببيوتها وشيوخها وأطفالها وجني مواسمها ومساعدتها في أعمال البناء وسد ثغرة كبيرة في قطاعات لا يجدون من يعمل فيها. وأمام عدم قدرتها، حتى الآن، على القيام بنظام فاعل من طريق قنصلياتها ووزاراتها لتشريع هجرة الشباب التي يحتاج إليها الطرفان: أي البلد المصدر للمهاجرين والمستورد لهم، إذا صح التعبير قامت أوروبا نفسها التي تخاف من سيطرة ثقافة أخرى على ثقافتها بتربية أبناء المهاجرين على قيمها ما تسبب لهم أحياناً بصراع نفسي داخلي. من أوائل الأجانب الذين جاؤوا إلى إسبانيا، في ستينات القرن الماضي، سوريون ولبنانيون وفلسطينيون وبعض الأردنيين الذين قصدوا الدراسة. معظمهم اليوم من مشاهير الأطباء والصيادلة ورجال الأعمال. لم يشكلوا سابقاً تجمعات بالمعنى الحقيقي كما فعل مهاجرو أميركا اللاتينية أو الإسبان واليونانيين في الولاياتالمتحدة... فالسوريون أسسوا الأندية التي علّم بعضهم فيها أبناءه اللغة العربية لكن هذه لم تؤد مهمتها كاملة بجمع شمل الشباب السوريين لأسباب كانت شخصية أحياناً. أما من الناحية العددية فتقدر الإحصاءات وجود أكثر من 600 ألف مغاربي في إسبانيا معظمهم من المغرب، ونسبة الشباب الذكور بينهم مرتفعة جداً عكس المهاجرين من الإكوادور الذين يقارب عددهم النصف مليون وتزيد نسبة الإناث بينهم على الذكور بشكل كبير. حمل هؤلاء ثقافتهم اللاتينية ولغتهم الإسبانية معهم ما جعل اندماجهم وقبول المجتمع الإسباني بهم أمراً سهلاً. وإذا كانت هجرة الإكوادوريين حديثة فإن نسبة ضئيلة جداً من المغاربة وصلت إلى اسبانيا في ستينات القرن الماضي وربت عائلاتها على القيم والتقاليد المغربية داخل المجتمع الإسباني. كان هذا الأمر سهلاً نظراً إلى قلتهم العددية آنذاك. أما اليوم فإن ممارسة هذه التقاليد والعادات ونقل هذه القيم وفرض وجود ثقافة مختلفة داخل المجتمع الإسباني أصبحت تصطدم بعوائق عدة. الدوافع كثيرة، بينها ما هو اجتماعي لتعارضها مع القوانين الإسبانية، إما بسبب سوء تفسير المهاجرين لبعض النصوص الدينية وتطبيقها على أبنائهم بحسب ما يرتأون ما يولّد أحياناً غضب هؤلاء ولجوئهم إلى محيطهم الإسباني "الليبيرالي" لإنقاذهم من "السلطة الأبوية"، وإما لتعارضه الفعلي معها، أو لوجود ثغرات قانونية في شأنها تعدد الزوجات.... وبينها ما هو تقليدي إسباني ويكمن في حب إبراز "غيرة أبوية" لا لزوم لها أحياناً من شريحة كبيرة من المجتمع، أو حب التدخل في أمور الغير، أو بروز النزعة العنصرية التي كانت مخبأة في نفوس البعض تحت ستار "الرغبة في مساعدة هؤلاء المتخلفين القادمين من العالم الثالث"، أو التخوف من أن يصبح هؤلاء أكثرية وبالتالي يسيطرون بعاداتهم و تقاليدهم على المجتمع الإسباني.... ما يثير أحياناً ضجة كبيرة لا علاقة لأبناء المهاجرين بها هو تلك التي أثارتها قضية طفلة رفضت المدرسة قبولها لأنها محجبة، لكن حكومة مدريد المحلية أجبرتها على ذلك، أو عدم سماح الجيران ببناء مسجد صغير في أحد أحياء برشلونة، أو إطلاق عنان بعض الصحافيين لمخيلاتهم ونشر التقارير حول ختان النساء وتزويجهن أطفالاً، أو تعذيبهن من أجل إجبارهن على الرضوخ لسلطة الوالد. لا يمكننا أن ننفي وجود حالات فردية اكتشفت ووجد الحل المناسب، لها مثل قضية طفلة ارتأى والدها أن "دينه لا يسمح بتعليم النساء" فأخرجها من المدرسة، ما دفع المدعي العام إلى تحويله للمحاكمة تطبيقاً لقانون إلزامية التعليم في إسبانيا. وتشير الإحصاءات إلى أن 36 في المئة من أبناء المهاجرين لا يتلقون تربية تساعدهم على الاندماج على رغم رصد الحكومة الإسبانية مبالغ كبيرة لذلك. وقد عرض النائب العام المختص بشؤون القاصرين على الحكومة مشروع إجبار الأمهات على حضور حلقات دراسية عن حقوق الانسان والطفل. أحمد، درس الإدارة في المغرب وتوظف في إحدى بلديات بلاده. يعمل اليوم في ورشة بناء نظراً لعدم تمكنه من الحصول على عمل آخر على رغم أنه يتكلم بطلاقة الفرنسية والإسبانية إضافة إلى العربية. يقول إنه يعيش بين الإسبان وكأنه إسباني على رغم وعيه الكامل بأن هذا المجتمع لن يعتبره كذلك أبداً. إنه أجنبي و "مورو" تسمية تحقيرية للمغاربيين وسيبقى كذلك طيلة حياته. لم ولن يتخلى عن الثقافة التي حملها معه من بلاده لكنه يضيف إليها ما كسبه من ثقافة البلد الذي يعيش فيه اليوم، "فالغنى الحقيقي يتمثل بتعدد الثقافات". يتكلم مع أولاده لغة بلاده وزوجته الإسبانية تتكلم معهم لغتها. يقوم بتربية أولاده على ثقافة والديهم وحضاراتها إضافة إلى تعليمهم قيم الإسلام وتعاليمه في الوقت الذي يتعرفون فيه إيضاً إلى قيم الديانات الأخرى المتواجدة في المجتمع الذي يعيشون فيه. يقول إن أطباق المطبخ الإسباني والمغربي متوسطية وبالتالي فهي ليست غريبة على ذوق أفراد العائلة. يعترف بسهولة إيجاد المواد الأولية لأطباق بلاده وبأن زوجته تعلمت تحضير بعضها على يد والدته. وتقوم غالباً بذلك بمساعدته. يرفض فكرة وجود نوع من "الغيتو" بين المغاربة في إسبانيا، ويقول إن يوم الجمعة يجمع المغاربة، الذين يُعتبرون أكثرية بين المسلمين في جامع مدريد. وإنهم لا يلتقون خارج هذا الوقت. "على رغم وجود جمعيات قوية للعمال المغاربة ليس هنالك ما يجمع أولادنا الشباب سوى الروابط العائلية. "أنا أنتمي إلى عائلة كبيرة يوجد منها في مدريد نحو 40 شخصاً. نجتمع في المناسبات لنحافظ على التقاليد العائلية التي ورثناها من آبائنا وأجدادنا وسنورثها لأبنائنا المغاربة-الإسبان. ومثلنا كثيرون، لكن ذلك لا يمكن اعتباره غيتو مغربياً". وعن اصطدام هذه التقاليد بالعادات الإسبانية يقول إن هذا الأمر يتعلق بالشخص والمجتمع الذي يعيش فيه. فمجموعات الشباب المغاربيين الذين يجلسون في بعض الساحات العامة وبينهم النشال والعاطل من العمل والمهرب والمجرم لا يمثلون شبابنا ولا مجتمعنا ولا قيمنا الأخلاقية ويسيئون إلى سمعتنا كما نرفض ظاهرتهم مثلما يرفضها الإسبان. أما العمال والطلاب الذين يعيشون بنزاهة واستقرار فلا يعانون من أي مشكلات سوى تلك الصغيرة والفردية منها التي يعاني منها أي غريب غير أوروبي". ويشير إلى بنات أخيه اللواتي ولدن في إسبانيا وتربين في مجتمعها وقررن ارتداء الحجاب قبل دخولهن الجامعة ولم يشعرن برفض لهن في أي وقت من الأوقات". أما طارق فقد ولد في إسبانيا إبان عملية الانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية في أواخر سبعينات القرن الفائت. والده لم يحافظ على هويته وثقافته المغربية لأنه كان يرفض نظام بلاده التي كانت تقيم علاقات أخوية مع نظام فرانكو في إسبانيا. اليوم، يقول إن هذه العلاقات ما زالت أخوية ولكنها في ظل الديموقراطية، وأنه نادم على عدم فرض وجوده على مجتمعه وترك الأمور السياسية جانباً. لم يكن يسمح له ولأشقائه بتكلم العربية ولغته الأصلية "الأمازيغية" خارج المنزل إلا في المغرب. كان يخجل من ذلك ويحاول إظهار اندماجه في المجتمع الإسباني من طريق تنكره للغته لكسب عطف هذا المجتمع. ويؤكد طارق أن شباب بلاده يعانون اليوم من مشكلات تختلف عن تلك التي عانى منها والده. إنه يعاشر أبناء بلده ليتعرف منهم على تقاليد أجداده على رغم الاختلاف الثقافي بينه وبينهم، ويشعر بضرورة التقرب منهم أكثر من أي وقت مضى. فبعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر الأمور أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة إلينا جميعاً، خصوصاً بالنسبة إلى أولئك الذين يصلُون أو الذين وجدوا نفسهم مجبرون على العيش في تجمعات تفوح منها رائحة الفقر أو النزاهة والاستقامة فباتت كلها اليوم محط أنظار ومراقبة أجهزة الامن.