حينما بدأ فريق من المثقفين والمبدعين العرب التبشير بفكرة الحداثة والدفاع عنها، وكان ذلك منذ مطالع القرن العشرين وبخاصة منذ نهاية اربعينات القرن، كانت الدعوة حينها منتهى ما بلغتهُ ثورة الثقافة العربية على قيودها الذاتية، وذروة ما شارفَته من تطلعات الى المستقبل والمعاصرة. انتقلت فكرة الحداثة من الأدب والفن والفكر الى السياسة والفكر السياسي. جرى ذلك - ابتداء - في سبعينات القرن العشرين المنصرم، وأتى التعبير عنه تحت عنوان: الحداثة السياسية. وإذْ عنت هذه الحداثة الخروج من إسار نظام الدولة السلطانية التقليدي، ونظام الدولة التسلطية المستعيرة حداثة شكلية تخفي جوهرها السلطاني التقليدي، فقد عنت - بالنتيجة - الدفاع عن نظام الدولة الديموقراطية الحديثة التي تُشتق فيها الشرعية من الشعب ومن المؤسسات ومن الاقتراع الحر والنزيه. وإذا كانت فكرة الحداثة السياسية نهلت معطياتها المباشرة من فكرة التحديث الاقتصادي، ومن فكرة التحديث الاجتماعي، فإن معينها الأساس والعميق هو فكرة التقدم التي تعود بجذورها - في الفكر العربي الى القرن التاسع عشر. ولو شئنا تعقيب تاريخ فكرة الحداثة السياسية في الوعي العربي، لأمكننا الحديث عن طورين رئيسيْن من التعبير عنها: طور اول كانت فيه فكرة تأسيسية في الخطاب الليبرالي العربي، وخصوصاً في تعبيره الديموقراطي الجديد الذي بدأ الإفصاح عن نفسه منذ النصف الثاني من الستينات من القرن الماضي. وفيه كانت الحداثة السياسية ترادف في المعنى قيام نظام الدولة الوطنية القائمة على النظام الديموقراطي الحديث على مثال الأنظمة السياسية القائمة في الغرب... ثم طور ثان راهن، اغتنت فيه فكرة الحداثة السياسية بمضمون راديكالي اكبر، واتسع فيه نطاق الدفاع عنها، بعد تبني تيارات فكرية وسياسية اخرى - قومية واشتراكية - لها في اعقاب انهيار طوبى الدولة الاشتراكية. ولم يتغير فيه - ايضاً - معنى الحداثة السياسية الجوهري: قيام دولة القانون والمؤسسات وانتظام سلطة الدولة على مقتضى الحريات والمشاركة السياسية والتداول السلمي على السلطة. ومن يراقب المدى الذي بلغته حركة حقوق الإنسان في الوطن العربي، والذي بلغه الاهتمام بالمسألة الديموقراطية فكرياً، سيلحظ ان جمهورها الاجتماعي والفكري اتسع كثيراً على نحو يكرّس الانطباع بأن فكرة الحداثة السياسية تتجه لكي تصبح - مثل فكرة الحداثة في الأدب والفن - عقيدة سياسية. لفترة طويلة، دفعت قوى الحداثة السياسية - من مثقفين وسياسيين - ثمناً باهظاً جراء نضالها الشاق من اجل إقرار الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، ومن اجل تنمية الوعي الاجتماعي العام بتلك الحقوق. لم تكن النظم السياسية العربية لتقبل اشاعة مثل هذا الخطاب الذي "يؤلب" "الرعية" على الحاكم العربي حين ينبّهها الى مستوى المكاسب التي احرزتها شعوب الأرض وأممها على صعيد الحقوق المدنية والسياسية، او الى مستوى الرقابة التي باتت تفرضها الشعوب على سياسات حكامها - من خلال المؤسسات التمثيلية والصحافة والإعلام - فتُجبر تلك السياسة على مراعاة مطالب الرأي العام. كان القول بذلك يعادل - في حساب النتائج - اعلان عصيان مسلح على تلك النظم. لذلك ضاقت سجون البلاد العربية بعشرات الآلاف من السياسيين وأهل الرأي المخالفين للسلطة، وأُجبر أضعاف اضعاف هؤلاء على الفرار بجلدهم الى المنافي هرباً من السجن او الموت. ويشاء منطق التاريخ والتطور السياسي ان تدخل في حلبة النضال من اجل الديموقراطية قوى جديدة هي قوى الحركة الإسلامية، وأن يضيق الخناق - بسبب ذلك - على النظم السياسية المعادية للديموقراطية، او الرجعية في خطاب الليبراليين والقوميين والماركسيين، فلا تجد هذه النظم ما تواجه به هذا "الخطر" الجديد سوى استعارة خطاب التقدميين انفسهم. هكذا بدأنا نشهد، استهلاكاً مثيراً لمفاهيم الحداثة السياسية، من قبل بعض النظم الأكثر قمعاً للحريات العامة في الوطن العربي، من قبيل مفهوم المجتمع المدني والنظام المدني والديموقراطية والسّلم المدنية... الخ، حيث تزعم هذه النظم انها مؤسسات وقواعد للسياسة باتت مهددة من "الخطر الأصولي" المتصاعد. فجأة، تتحول هذه النظم - وقد وصلت الى السلطة بالانقلاب وعمّرت فيها باستفتاءات ال99،99 في المئة من نظم توتاليتارية تستند سلطتها الى الجيش والأمن والاستخبارات، وتفتقر الى الحد الأدنى من الشرعية الديموقراطية والدستورية، الى نظم حريصة على الديموقراطية ومدافعة عن المجتمع المدني! الاستعارة إياها سرقة موصوفة لملكية تعود الى الديموقراطيين، وفصل جديد من بهتان سياسي كان دائماً عقيدة للنخب الحاكمة العربية. ثم انها مفارقة اخرى من مفارقات السياسة والحقل السياسي في الدولة العربية القائمة! * كاتب مغربي.