علي أومليل. مواقف الفكر العربي من التغيرات الدولية: الديموقراطية والعولمة. منتدى الفكر العربي، عمّان. 1998. 112 صفحة. يحاول علي أومليل في هذا الكتاب، الذي هو في أصله دراسة قدمت إلى الاجتماع السنوي الحادي عشر للهيئة العامة لمنتدى الفكر العربي الذي عقد في عمّان خلال نيسان ابريل 1998، إعادة النظر في التصنيفات المعهودة لمختلف ردود فعل الفكر العربي تجاه أهم التحولات الكبرى التي شهدها العالم. وهي في نظره ردود فعل وانفعالات وليست مواقف وأفعالاً. فالفكر العربي - منذ القرن الماضي - يفكر في تحولات لم يصنعها هو، أي أنه يفكر ايديولوجياً. نشأ مختلف هذه الردود في حضن إشكالية عامة هي اشكالية التحديث، أي رفع المجتمع إلى مستوى المعاصرة. قضية التحديث هذه ليست قضية حديثة، بل انها إشكالية خاض غمارها المثقفون العرب منذ القرن الماضي. ثم أنها ليست وقفاً على من سمي منهم بالليبراليين أو دعاة الحداثة. بل انها كانت أيضاً قضية من اطلق عليهم سلفيين. فإذا كان الأولون يعتقدون بعالمية الحداثة، بل بالمطابقة بين التحديث والتغريب، فإن الاصلاحيين السلفيين نادوا بتحديث المجتمع الإسلامي وذلك بقهر تأخر مزدوج: "تأخر بالنسبة إلى الإسلام المعياري، الإسلام الأصل، بالاعتماد أصلاً على القرآن والسنّة، مع فتح باب الاجتهاد لإعادة قراءتهما كما تقتضيه روح العصر والمصلحة المتجددة للمجتمع والأمة، دون التقيد - بالضرورة - بكل الوسائط التي أنشأت تفسيرات ومذاهب جمدها التقليد". وتأخر بالنسبة إلى الغرب في نظامه العسكري والاقتصادي ومؤسساته السياسية الضامنة ل"العدل والانصاف". لقد كان الاصلاحيون، منذ الأفغاني، يدافعون عن الديموقراطية باسم الشورى، وعن البرلمانية التمثيلية فيترجمون مفهوم "نواب الأمة" باسم أهل "الحل والعقد"... الخ، كما كان الذين سموا ليبراليين يكتبون أيضاً في الإسلاميات. لن يتولد تركيب جدلي عن "التناقض" المزعوم بين هذين الاتجاهين، وإنما ما يحدث هو توقف مزدوج للحركتين معاً كان الخاسر الأكبر فيه هو حركة التحديث عموماً، والديموقراطية على الخصوص. الأول هو توقف تطور الاصلاحية الإسلامية وظهور حركة إسلامية تدعو إلى القطيعة المطلقة مع الغرب. والثاني نتيجة الضعف البنيوي الذي تجلى داخل الحركة الليبرالية العربية. ذلك ان الليبراليين العرب دفعهم اعجابهم اللامحدود بالغرب إلى تقبل ثقافته برمتها دون فحص نقدي، ودون التساؤل عن مدى التصاق قيم الليبرالية بتجربة خاصة بالغرب. ثم انهم كانوا، وما زالوا، دائماً نخبة ولم يتحولوا إلى حركة تستند إلى قاعدة اجتماعية وقوة سياسية. إنهم عولوا على نخبة مستنيرة توجه الدولة لتقود عملية التحديث والدمقرطة ناسين ان الدولة ليس باستطاعتها انجاز المشروع التحديثي الديموقراطي ما لم تكن هي كذلك. والخلاصة ان المثقفين الليبراليين العرب لسوا منذمجين عضوياً في المجتمع. قد يقال إن الليبرالية لم تتوقف بفعل هذا "الضعف البنيوي" وأن هناك عودة متواترة للخطاب الليبرالي في العالم العربي. يبرز علي أومليل الفارق بين ليبرالية الثلاثينات والأربعينات، وبين ليبرالية الثمانينات "فالأولى ركزت على ريادة الدولة في التحديث، في حين ان الثانية - وتبعاً للموجة السائدة ووصايا المؤسسات المالية العالمية وضغوطها - أخذت ترفع شعار تقليص دور الدولة". الليبرالية الأولى فكرية سياسية، أما الثانية فهمها اقتصادي أو "اقتصادوي" بالأحرى. إنها ليبرالية بتراء لأن الليبرالية لا تنحصر فقط في المطالبة بحرية المبادرة الاقتصادية وتقليص دور الدولة "بل ان مفهوم الحرية متكامل"، فهو أيضاً حرية الرأي والتعبير، والحريات المدنية والسياسية. هذا الفصل بين السياسي والاقتصادي ينعكس عند هذه الليبرالية العربية الجديدة في الفصل بين اقتصاد السوق والديموقراطية. فهؤلاء الليبراليون الجدد "مدافعون مستميتون عن اقتصاد السوق ولكنهم ساكتون عن مسألة الديموقراطية". ينسى هؤلاء ان الحداثة عملية متكاملة، فهي تحصيل معرفة متقدمة، واستيعاب للتكنولوجيا، لكنها كذلك إقامة مؤسسات ديموقراطية. والواقع ان الوطن العربي متخلف على المستويين: مستوى النمو الاقتصادي، ومستوى الديموقراطية. بل انه غدا متخلفاً حتى بالقياس إلى ذاته وما كان عليه خلال العشرين سنة بين الستينات والثمانينات. تبلورت هذه المواقف السلبية ازاء الحداثة في رد فعل سلبي ازاء الدولة الوطنية. هذا الرد طبع الفكر العربي بمختلف اتجاهاته. فالفكر القومي اعتبرها نتاج التجزئة وعائقاً في طريق الوحدة، وهكذا فإن تحطيم حواجز الحدود هو أهم عند دعاة الوحدة القومية من النضال لترسيخ الدولة الوطنية. أما الإسلاميون فلا مكان في تفكيرهم لفكرة المواطنية. والاسبقية هي للرابطة التي تشد المسلم إلى الأمة. والأمة أوسع من أي دولة وطنية أو قطرية. وقد ذهب الماركسيون العرب مذهب غيرهم من الماركسيين في اعتبار الدولة جهاز قمع يعكس المجتمع الطبقي الذي يزول بزواله. مختلف تيارات الفكر العربي إذن أذابت الدولة في ما هو أوسع "تعلقت عقائدياً بمجال أوسع من مجال الدولة". وهي لم تدرك الدور الجديد الذي أصبحت تلعبه الدولة الوطنية اليوم وانتقالها من دولة تتدخل في الاقتصاد وتساهم في العملية الانتاجية إلى دولة الخدمات الرئيسية. إن عيب التصنيفات المعهودة لمختلف ردود فعل الفكر العربي هو أنها كانت تعتبر أن الاختلاف الجذري هو إما بين السلفيين والليبراليين، أو بين السلفيين والماركسيين. هذا في حين أن الخلاف لا يقل حدة داخل الفكر الاسلامي المعاصر نفسه، فحين كان الاتجاه العام لدى النخبة الاصلاحية العربية والاسلامية هو الحداثة السياسية متمحورة حول القضية الدستورية حصل احياء لقيم سياسية إسلامية، وعلى رأسها قيمة الشورى لتصبح القيمة السياسية الأساس فلم تكن القضية مطلقاً هي رفض الديموقراطية بدعوى أنها تقوم على فلسفة كلاسيكية. بل كانت المسألة هي كيف يتم تقريبها إلى الزهن الإسلامي ليس على أنها بدعة، بل باعتبارها قيمة كبتها الاستبداد الذي توالت عصوره على المجتمعات الإسلامية. أما اليوم فرفض أسس الديموقراطية أصبح يصدر عن تيارات نابعة من أحشاء المجتمع تحمل لواء إسلام أصبح يدعو إلى القطيعة مع المجتمع ومع العالم، وذلك هو التناقض الأساس في الفكر العربي اليوم. المهمة الملقاة على الفكر العربي الآن إذن هي الحفر الثقافي في أسس الديموقراطية وتأهيل مجموعة من القيم التي كان المثقفون عندنا في الماضي إما يقبلونها ويكتفون بالتعريف بها ونشرها، أو يسعون إلى بحث عن مماثلات لها في مأثوراتنا الفكرية. وربما آن الآوان لندخل في نقاش معمق، بل صراع فعلي، حول أصول الفكر الديموقراطي ومبادئ حقوق الإنسان وقيم الحداثة.