صادفت الاحكام القضائية الصادرة في حق المجموعة الاولى من المتورطين في التفجيرات الارهابية بالدار البيضاء وفي حق الذين كانوا على صلة بهم مرور مئة يوم على وقوع تلكم الاحداث المشؤومة. واذا كانت التفجيرات حصدت ارواح عدد من المغاربة والاجانب، فإنها حملت ايضاً الى طرح مجموعة من الاسئلة التي تتجاوز البحث عن الظواهر والاسباب التي قادت اليها لتمس جذر الاحساس بالأمن قبل ان تتحول الى قلق في معنى الهوية الوطنية حيث تساءل الكثيرون عن انتماء منفذي العمليات وكيف انشقوا من ذات المغرب كما انشقت من صلبه الجماعات المتطرفة التي انتظموا فيها. الآن وقد اصبح الناس مقتنعين بأن ما جرى قبل اكثر من ثلاثة اشهر لا يعدو حدثاً استثنائياً في مسيرة التاريخ وأمام القيم المشتركة، لسرعة استعادة سلطات الأمن المبادرة وكثافة الاجراءات الاحترازية والقانونية المتخذة في حينه، فإن باب النقاش بينهم انفتح بقوة ولا يبدو انه سيقفل بسرعة امام سيل الاخبار المتداولة والتغطية الاعلامية الواسعة التي تحظى بها ملاحقة المشبوهين ومحاكمات الضالعين في "مجموعات الارهاب"، ومشاركة عدد من المثقفين والكتّاب في مقاربة الحدث وما آل اليه استقرار بلد لم يسبق ان ذاق مرارة الموت غدراً بمثل ما اودت تفجيرات الدار البيضاء بضحاياها. ويبدو ان هذا النقاش لا يضيء الاوضاع والاسباب التي قادت الى التفجيرات فقط، بل يمتد الى خلفية تيارات الاسلام السياسي وأشكال وجودها ضمن مؤسسات المجتمع والثقافة السياسية السائدة في المغرب. كما تعكس الكتابات توجهات في بحث معنى الهوية الثقافية وقد اتصلت هنا بمسوح ديني، كما تعكس في الآن نفسه تطلعاً الى اعادة ترتيب العلاقة بين السياسي والثقافي وقد اصبح الديني طرفاً فيها ضمن عناصر الصراع على السلطة. بل وأصبح مجالاً لتنازع السلطة والمبادرات من جهة المؤسسات الرسمية والمدنية، الى درجة ان وجد من يرى بضرورة تحرير المجال من كل اطراف الفعل السياسي الرسمي والحزبي ومن تدبير اليد الواحدة وجعله مجالاً لفاعلية المجتمع ولتعبيراته غير السياسية. والحال ان كلاً من الدولة والمجتمع يحتاج الى اعادة التفكير في طرق العيش المشترك بين المغاربة والبحث عن اشكال وآليات جديدة في تدبير الحكم بينهم بتحديث شروط ومستلزمات النظر والاعتقاد في شؤون الدنيا والدين بما يراعي ضرورة التحديث ويحفظ للمجتمع ذخيرته ومتخيله الرمزي. للاسلام السياسي في المغرب تاريخ طويل من الحضور والتجاذب مع السلطة. اذ منذ منتصف السبعينات والعلاقة بينهما تمر بنفق المصالح والحسابات السياسية التي سعى كل طرف الى استغلالها لتقوية معسكره. وجاء مقتل عمر بنجلون احد قياديي الاتحاد الاشتراكي على يد منتسبي الشبيبة الاسلامية سنة 1974 ليظهر ان تيار التطرف يشكل ورقة في معادلات الاستقرار، وظفته السلطة لضرب العمل السياسي الحزبي وغير الحزبي الصادر عن الجماعات الماركسية بخاصة وكبحه تارة، واتبعت معه سياسة الاحتواء وتابعته وغلقت دونه منافذ العمل المصرح به تارة اخرى. ويبدو ان سياسة الاحتواء نجحت الى تاريخ قريب في توجيه عمل معتنقي الفكر الاصولي ضمن الشروط المدنية جمعيات، تظاهرات ثقافية، مسيرات الى ان اعلن عن نتائج الانتخابات التشريعية السنة الماضية بحصول حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الدينية على 42 مقعداً النسبة الثالثة في البرلمان المغربي حيث بدأت حركات اصولية العمل خارج الحدود المتعارف عليها سواء بتنصيب زعامات دينية او اقامة الحد على الناس في بعض الأحياء الشعبية، او بتكفير المجتمع والدعوة الى الجهاد، ما انتهى الى الاحداث الأليمة للدار البيضاء. من هنا لم تكن تفجيرات 16 ايار مايو مفاجئة للكثيرين. فقد جاءت على خلفية امتداد واضح لتيارات الاسلام السياسي في المغرب مستغلة سوء الاوضاع الاقتصادية واحتقان الأفق السياسي. كما اعتبرت الاحداث ذاتها امتداداً لموجة التفجيرات التي هزت اكثر من دولة في العالم الاسلامي، خصوصاً في الآونة الاخيرة. ويمكن اجمال الفرضيات المفسرة لانفجار دائرة العنف في ضوء العناصر الموضوعية الآتية: - تنامي المد الاصولي في المغرب بدعم سياسي من الداخل ولوجيستي - مالي متنوع الجهات والايديولوجيات من الخارج. - السياسات الاقتصادية المتبعة منذ 1984 التي اضرت بأوضاع الطبقات الدنيا وأجحفت حقوقهم في التعليم وتوفير السكن والخدمات الصحية، وهيأت من ثمة لظهور طبقة من المرابين والمنتفعين، سواء بالانفتاح الاقتصادي على اوروبا او بالموارد الوطنية وعلى خلفية المصالح. - التيه السياسي الذي يعيشه المجتمع في ضوء ضعف الشعور بالمواطنة وبالمسؤولية امام الجماعة، وانعدام ما يحفز على المشاركة في العمل السياسي رداء صورة السياسي والحزبي الذي لا يرى في غير صورة الانتهازي الوصولي لخدمة مصالحه! وحتى في عمليات الاقتراع لانتخاب نواب للبرلمان او مستشارين محليين نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية الاخيرة لم تتجاوز 47 في المئة ولم ترتفع الى ذلك إلا بسبب المشاركة المكثفة في البادية!. - تدمير النسيج الثقافي وخلق وعي زائف واقتراع قضايا هامشية لالغاء التحديث وحماية التقليدي والعتيق بدعوى المحافظة على الشخصية ومكونات الهوية. هذا من دون استعادة الفرضيات الكبرى التي ربطت المد الاصولي وانفلات جماعاته في البلدان العربية بطبيعة البنية الذهنية العربية وثقافتها التقليدية، وانكسار النموذج القومي وفشله في مشروع الاصلاح، ووقوع الدولة في تبعية شاملة للسياسات المفروضة عليها من الخارج حتى اصطدم الناس معها باكراهات اقتصادية وبعوائد استهلاكية شتى افقدتهم معنى الانتماء الى الوطن والاحساس بمسؤولياتهم. واذا كانت الجماعات المتطرفة فسرت هذه الاسباب لمصلحتها بالعمل على استقطاب اليائسين وخصوصاً من الفئات الشعبية الاقل تعلماً جل المنفذين والضالعين في تفجيرات الدار البيضاء من مستوى تعليمي بسيط لا يتجاوز الابتدائي بغير سنة او سنتين وربطت بين سوء الاوضاع وبين فشل مشروع التحديث في المجتمعات العربية، فإن خطابها الرافض لقيم الحداثة وللفكر المستنير والمتحصن خلف ترسانة من التعاليم التي لا يُعرف تماماً مدى حجيتها في الحياة المعاصرة حيث ينبري للتوجيه كل من رأى نفسه اهلاً لذلك، ويلوذ العلماء بالصمت! لم يجد صعوبة في تلبس السياسي واختبار امكنة استغلاله والاتصال بسلطه. ويأخذ ذلك منحى الخطورة عندما تحول التنظيمات المتطرفة كل مظاهر الحداثة في المجتمع الى معترك ترفض فيه القيم الاساس باسم ما يحمله الاعلام من صور الانفلات الاخلاقي، وسيادة النزعة الفردية التي تغيب الجانب الانساني في المعاملات وتدفع الى دوامة الاستهلاك وفقدان المعنى. في هذا السياق نحتاج الى تعامل آخر مع ظاهرة التطرف المستشرية بين بعض الجماعات المدعية صدورها عن الاسلام. نحن نحتاج اولاً، وبالأساس، الى لغة اخرى غير لغة العنف والتطرف. فعوض لغة النبذ والإقصاء يمكن اللجوء الى لغة الفكر والتنوير لإضاءة جوانب القصور في الحياة العربية ومراجعة آليات اشتغالها وتعاملها مع العالم من مكان المراجعة الدائبة لأساليب التفكير والطرق الموظفة في الفكر الديني السائد لدى المؤسسات والمجتمع. فمراجعة الفكر الذي تعتمده الجهات الرسمية والحركات الاصولية المتطرفة كما المؤسسات الاصلاحية ذات التوجه الثقافي والاجتماعي في عملها قد يفضي الى اعادة تشكيل ثقافة عربية اخرى مغايرة لا تنذر حاملها بالموت الدائم، كما تؤسس لبناء الانسان العربي الحديث والمتحرر فعلاً من ظلامه وقيوده. * كاتب مغربي.